في وقت تتزايد فيه التسريبات الإعلامية حول اقتراب اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل، ولقاء حصل بالفعل بين وزير الخارجية السوري ووفد إسرائيلي في باريس، تنفي دمشق وجود أي مفاوضات أو اتفاق وشيك مع إسرائيل، مؤكدة أن الموقف السوري "ثابت ولم يتغير". فماذا نعرف حتى الآن؟
في يونيو/ حزيران الماضي، نشرت وكالة الأنباء السورية الرسمية بياناً حكومياً ينفي "وجود أي اتصالات مباشرة أو اتفاقات سرية مع إسرائيل". ووصف التسريبات الإعلامية بأنها "مفبركة"، كما قالت مصادر رسمية لوكالة الأنباء إن أي حديث عن سلام أو تطبيع مع إسرائيل "سابق لأوانه".
بعد هذا النفي الحكومي، التقى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في 19 أغسطس/آب ، وفداً إسرائيلياً في باريس لمناقشة عدد من الملفات المرتبطة بتعزيز الاستقرار في المنطقة والجنوب السوري.
وركزت النقاشات على خفض التصعيد وعدم التدخل بالشأن السوري الداخلي، والتوصل لتفاهمات تدعم الاستقرار في المنطقة، ومراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء، وإعادة تفعيل اتفاق 1974.
أما رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع فأكد خلال اجتماع مع وفد إعلامي عربي في 24 أغسطس/آب أن أي اتفاق مع إسرائيل سيُبنى على أساس خط الهدنة لعام 1974، وإن دمشق لن تتردد في اتخاذ أي قرار أو خطوة من شأنها خدمة مصلحة سوريا والمنطقة.
من الجانب الإسرائيلي تحدثت القناة 12 الإسرائيلية عن اتفاق أمني وشيك بين سوريا وإسرائيل بوساطة أمريكية - خليجية يتضمن تنازلات سورية مقابل مساعدات وإعمار.
وتتصدّر في الإعلام الإسرائيلي تغطيات حول الاتصالات الجارية بين الجانبين، حيث نشرت صحف مثل "يديعوت أحرونوت" و"تايمز أوف إسرائيل" تقارير تتحدث عن محادثات سرية تديرها أطراف ثالثة، منها الإمارات والولايات المتحدة، لإشراك سوريا في مسار "الاتفاقيات الإبراهيمية".
فهل نحن أمام ملامح اتفاقية جديدة تعيد رسم خريطة الصراع في سوريا والمنطقة، أم أن ما يُطرح لا يتجاوز تسريبات عابرة في ظل واقع جيوسياسي متقلّب ومعقّد؟
يرى خبير العلاقات الدولية، الدكتور أشرف عُكة، أن ما يجري حتى الآن هو "حديث عن اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل، وليس عن اتفاق شامل أو سلام كامل"، إذ أن "الحكومة السورية تُنكر وجود مسار نحو اتفاق شامل، وما يُطرح لا يتجاوز كونه محاولة للعودة إلى ترتيبات اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1974، خصوصاً في الجولان وجنوب سوريا. أي صيغة أخرى، لن يكون اتفاقاً حقيقياً"، على حد قوله.
ويعتبر عُكة أن أي اتفاق أمني تُقدِم عليه الحكومة السورية دون أن يراعي مسألة الجولان أو السيادة بالحد الأدنى يُعتبر ضعيفاً.
وحول احتمالية توسط دول في المنطقة لجمع الجانبين السوري والإسرائيلي، يقول عكة إن السؤال الأهم هو: إلى أي مدى يمكن للوساطات الخليجية والأمريكية أن تلبي ما تسميه إسرائيل "متطلبات أمنها"، خاصة أن الاستراتيجية الإسرائيلية تقوم على إقامة مناطق عازلة ليست مجرد حائط صد، بل مناطق انتشار وسيطرة فعلية؟
ويرى عُكة أنه "علينا أن نُدرك أن الملف السوري لا ينفصل عن بقية ملفات المنطقة: لبنان وغزة والضفة الغربية، وحتى اليمن وإيران وتركيا. فكل المسارات مترابطة".
ويضيف: "من هنا، فإن أي اتفاق أمني محتمل مع سوريا سيظل ناقصاً، مرهوناً بتطورات أكبر في المنطقة. وإن أقدمت دمشق على اتفاق لا يأخذ بعين الاعتبار مستقبل الجولان وسيادة البلاد، فسيكون ذلك اتفاقاً محفوفاً بالمخاطر على النظام والدولة السورية معاً".
بينما يقول الخبير في المجال الجيوسياسي والأمني، الدكتور عامر السبايلة: "دعونا ننطلق من حقيقة أن التحولات في السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ سقوط النظام في سوريا، أثبتت أن الدولة السورية لم تعد قائمة بالمعنى الحقيقي. وبالتالي، فإن إسرائيل لا ترى نفسها مضطرة للدخول في سلام مع كيان تعتبره منهاراً أو غير موجود. هذه نقطة أساسية لفهم ديناميكيات التحركات الإسرائيلية في المنطقة".
ويرى السبايلة أن إسرائيل تنظر إلى الجغرافيا السورية على أنها مساحة مفتوحة "قد تتعرض للاستغلال"، وكانت قد حاولت فرض واقع جديد من خلال تدخلات عسكرية متكررة، وصولاً إلى تبني خطاب حماية مكونات سورية معينة.
ويضيف: "إذا تحدثنا عن اتفاقية أمنية محتملة، فالأمر بالنسبة لإسرائيل يقوم على عدة أسس واضحة: أولاً، الحفاظ على المكاسب التي حققتها على الأرض كجزء من استراتيجيتها الأمنية. ثانياً، تكريس فكرة حماية المكونات التي ترتبط بها، كالمسألة الدرزية أو الممرات الإنسانية. ثالثاً، تعزيز قدرتها على العمل داخل سوريا، وتحويل النظام القائم هناك إلى شريك في هذه المعادلة".
يضيف، يجب أن نكون واضحين: التسريبات التي تطرح عن صفقة محتملة اليوم ليست اتفاق سلام بين طرفين متكافئين، بل اتفاق يفرضه طرف يملك اليد العليا، مقابل نظام مضطر للقبول به من أجل شرعنة بقائه. وبالنسبة لإسرائيل، لا توجد حاجة حقيقية لأي اتفاق، لكنها قد تراه مدخلاً للتطبيع الإجباري مع سوريا، ونموذجاً يُعلن لاحقاً، بحسب رأيه.
ويرى الخبير الجيوسياسي أنه لهذا السبب، لا يمكن مقارنة أي اتفاق - إن كانت هناك محاولات في هذا الاتجاه - باتفاقية فض الاشتباك عام 1974؛ فالظروف مختلفة تماماً. باعتبار أن "إسرائيل تعتقد أن لديها اليوم مساحة واسعة لفرض شروطها ومعادلاتها على الحكومة السورية، دون الحاجة إلى اتفاقيات تقليدية بين جيوش نظامية كما كان في الماضي"، كما يقول.
إذاً، لماذا يعود الحديث حول "اتفاقية فض الاشتباك" لعام 1974؟
ينص اتفاق فصل القوات بين سوريا وإسرائيل عام 1974، الذي تمّ التوصل إليه بوساطة أمريكية بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول من عام 1973، على وقف إطلاق النار، وانسحاب إسرائيل من بعض المناطق، وإقامة منطقة فصل تحت إشراف الأمم المتحدة، مع قيود على التسليح العسكري.
وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق جَمّد القتال، إلاّ أنه لم يكن سلاماً سياسياً ولم ينهِ الاحتلال أو اعتراف أي طرف بالآخر بشكل رسمي.
أبرز التحليلات حول هذا الاتفاق خلال المرحلة الحالية:
في ظل هذه التسريبات والتطورات على الأرض، دعا الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، الشيخ حكمت الهجري، إلى تدخل دولي لدعم مطالبتهم بـ"إقليم مستقل" في السويداء.
ففي مقطع فيديو نُشر يوم الاثنين 25 أغسطس آب، قال الهجري: "نناشد المجتمع الدولي والدول الحرة الوقوف إلى جانب الطائفة الدرزية لإعلان إقليم مستقل يضمن حمايتنا".
وأضاف: "بدأنا مساراً جديداً بعد المحنة الأخيرة، التي كانت تهدف إلى القضاء على الطائفة الدرزية"، معرباً عن تقديره للدول التي ساندت الطائفة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل.
تحدثت تسريبات إعلامية إسرائيلية عن أن أي اتفاق أمني محتمل مع دمشق قد يتضمن إنشاء "ممر إنساني" يصل إلى محافظة السويداء، باعتبارها منطقة ذات حساسية خاصة بسبب وجود المكوّن الدرزي. هذا الممر يُطرح في سياق ما تراه إسرائيل "التزامات أمنية" مرتبطة بحماية الأقليات، وضمان تدفق المساعدات أو التسهيلات الإنسانية ويمكن أن تُستثمر سياسياً وأمنياً في المرحلة المقبلة.
في المقابل، ترى أوساط سورية أن إدخال بند "الممر الإنساني" قد يشكّل مدخلاً لتكريس "نفوذ إسرائيلي" في الجنوب السوري، وربطه مباشرة بالوضع الداخلي للسويداء، وهو ما يُخشى أن يُستخدم كورقة ضغط على الحكومة السورية، أو كأداة لفرض ترتيبات ميدانية جديدة تتجاوز اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، بما يمنح إسرائيل "اليد العليا" في الجنوب السوري، بحسب خبير العلاقات الدولية أشرف عُكة.
وكانت محافظة السويداء قد شهدت منذ 13 يوليو تموز ولمدة أسبوع اشتباكات بين مسلحين دروز ومقاتلين من البدو، قبل أن تتصاعد الأحداث إلى مواجهات دموية مع تدخل القوات الحكومية وانضمام مسلحين من العشائر.
وتتواصل إدانات الخارجية السورية للهجمات الإسرائيلية على ريف القنيطرة، وتندد بتوغّل قوات إسرائيلية في بلدة سويسة الجنوبية واستمرار تمركزها في قمة جبل الشيخ والمنطقة العازلة، مؤكدة أن هذه الممارسات تشكل خرقاً للقانون الدولي وتهديداً للسلم الإقليمي، بحسب بيان حكومي نُشر يوم الثلاثاء 26 أغسطس آب.
القيادة الإسرائيلية لا تزال حذرة في ما يتعلق بالعلاقات بين الجانبين، حيث صرّح وزير الخارجية جدعون ساعر أن التقدم مع سوريا مرهون باعترافها بـ"الواقع الجديد"، مؤكداً أن السيادة الإسرائيلية على الجولان "ليست مطروحة للنقاش".
وركّزت تقارير إسرائيلية مؤخراً على تمسّك إسرائيل بالسيادة على الجولان كشرط غير قابل للتفاوض، مع تداول تسريبات حول مقترحات "حلول وسط"، مثل إقامة منطقة منزوعة السيادة أو "منتزه سلام" يُدار بشكل مشترك، مع بقاء السيطرة الأمنية والعسكرية لإسرائيل.
بحسب اتفاقية جنيف الرابعة وقرار مجلس الأمن 497 (1981)، يُعتبر ضم الجولان "باطلاً" بالقانون الدولي.
تشير دراسة قانونية نُشرت في يوليو تموز 2025، للباحث علي عثمان قراوغلو في "Law and Justice Review"، أن فرض إسرائيل قوانينها على الجولان يخالف مبدأ "عدم الاعتراف" في القانون الدولي، ويُشير الكاتب إلى أن سوريا "لا يمكنها قانونياً التنازل النهائي عن الجولان، حتى ضمن تسوية سياسية، لأن ذلك قد يُفسَّر كـ"شرعنة للاحتلال".
ويقترح الباحث أن أي تسوية يجب أن تقوم إما على انسحاب إسرائيلي كامل، أو على حلول انتقالية بإشراف دولي (مثل الإدارة المشتركة أو التأجير المؤقت)، مع الحفاظ على السيادة القانونية لسوريا، كما يطرح خيار مطالبة سوريا بتعويضات عن سنوات الاحتلال.