في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في بلدٍ مثقل بالحروب والأزمات، يختار جيلٌ جديد من الشباب أن يعبّر عن نفسه بلغة مختلفة: موسيقى الراب. كلمات سريعة وجريئة لا تعرف المجاملة، تختصر الغضب والخيبة والأحلام المؤجَّلة. ما بدأ كهامش موسيقي في الخرطوم منذ تسعينات القرن الماضي، صار اليوم ظاهرة تتصدر المنصات الرقمية، وتمنح السودان وجهاً آخر على الخريطة الثقافية العربية.
من "رصاصة حية" التي دوّت خلال الاحتجاجات، إلى Suits و"يا نجوم" التي تحصد ملايين المستمعين على "سبوتيفاي" و"يوتيوب" و"تيك توك" وغيرها من المنصات الرقمية، تحوّل الراب السوداني إلى صوت جيلٍ يبحث عن الحرية وسط الركام. وبينما يرى النقاد فيه فناً يوازي الغرافيتي كصرخة على جدران وأذن المدن، يراه الشباب مرآةً لواقعهم وذاكرةً لثورتهم.
لم يكن الراب وافداً غريباً على السودان. فمنذ تسعينات القرن الماضي بدأ شبّان في الخرطوم باستعارة إيقاعاته من الثقافة العالمية، لكن الثورة الشعبية في ديسمبر (كانون الأول) 2018 هي التي منحته معنى آخر. في الأزقة والشوارع وساحات الاعتصام، امتزج الراب مع الهتافات الشعبية، وصار نشيداً غير معلن للحظة سياسية عاصفة.
الناقد الفني مصعب الصاوي يرى أن الراب كان "الصوت الأكثر مباشرة في التعبير عن الغضب الشعبي، والأقدر على ملامسة وجدان الشباب، مثلما فعل الفن التشكيلي على جدران الخرطوم حين حوّلها إلى دفتر مفتوح للثورة".
من جهته، شرح الموسيقار كمال يوسف السياق التاريخي للراب في السودان قائلاً لـ"العربية.نت": "كما دخل الجاز إلى السودان في الخمسينات، جاء الراب استجابةً لموجة عالمية، لكنه هنا اكتسب روحاً محلية". ويستعيد تجربته عام 2006 حين شارك في ورشة مع مغنّي راب فرنسي بالخرطوم، حيث جرى دمج الطمبور والفلوت مع الإيقاعات الغربية، في محاولة مبكرة لمنح الراب نكهة سودانية خاصة.
ويضيف يوسف: "استطاع الشبان أن يجدوا في الراب لغة مختلفة، تُمكّنهم من التعبير عن قضايا الحرب والغربة والبطالة، وحتى أغنيات ثورة ديسمبر (كانون الأول) كان للراب فيها نصيب وافر".
في تلك الأيام، صعد اسم أيمن ماو. أغنيته "رصاصة حية" لم تكن مجرد مقطوعة موسيقية، بل تحولت إلى هتاف جماعي يردده المحتجون في الشوارع. وعندما غنّاها في ساحة الاعتصام عام 2019، بدا وكأنه يعيد للجمهور صدى أصواتهم، لتصبح الأغنية رمزاً للثورة أكثر من كونها عملاً فنياً.
اليوم صار للراب السوداني وجوهه البارزة. في المقدمة يطل "سولجا" بأغنيته Suits التي تجاوزت مليوني استماع على "سبوتيفاي"، بمشاركة السوداني "مونتياغو" والمصري "زياد ظاظا"، ليؤكد أن الراب السوداني قادر على اختراق الحدود والوصول إلى الساحة العربية.
وعلى الضفة الأخرى، يواصل "حليم تاج السر" مساره بلغة أكثر التصاقاً بالوجدان المحلي. أغنيته "يا نجوم" تجاوزت المليون ونصف استماع، فيما منحته "مانديلا" صداه الإقليمي، لتجعله صوتاً يعكس أحلام جيل محاصر بالحروب والاغتراب. وقد حصدت "مانديلا"، التي طُرحت رسمياً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أكثر من أربعة ملايين استماع على قناة "حليم تاج السر" الرسمية على منصة "يوتيوب". وفي كليب "مانديلا" يطرح المغني عملاً فنياً يعبر عن آلام وطنه، ويتعدى الحدود الجغرافية ليعكس واقعاً إفريقياً ممزقاً بسبب الهجرة القسرية والفقر والحروب التي لا تنتهي.
الشباب السودانيون أنفسهم يمنحون الراب معناه الحقيقي. ويقول فتحي (20 عاماً) لـ"العربية.نت": "هو الصوت الوحيد الذي يتحدث عنا بلا تزيين، عن الحرب والبطالة والغربة". وتضيف سارة محمد (19 عاماً): "فيه غضب، لكنه يمنحنا أملاً أيضاً". أما عبداللطيف (25 عاماً)، المغترب في الخليج، فيرى أن الراب صار جسر المغتربين مع الوطن قائلاً" عندما أسمع (رصاصة حية) أشعر أنني في شوارع الخرطوم".
ورغم حضوره المتزايد، يظل الراب محاطاً بالتحديات: ضعف البنية التحتية، والانقطاعات المستمرة للكهرباء والإنترنت، وغياب شركات الإنتاج، وضيق المساحات أمام حرية التعبير. لكن الشباب يصرون على خلق فضاء موسيقي خاص بهم، ولو بوسائل بسيطة.
الراب في السودان ليس نزوة فنية عابرة، بل سجلّاً سياسياً واجتماعياً لجيل كامل. في كلماته الغاضبة وإيقاعاته المتسارعة يسكن وجع الحرب وندوب الغربة، لكن يسكن أيضاً الحلم بعالم مختلف.