تجذب العروض الغامرة التي تعيد تجسيد الرحلة المشؤومة لسفينة المحيط "تايتانيك" جماهير من حول العالم. لكن هل تمثل هذه التجارب قيمة تاريخية حقيقية، أم أنها تحول المأساة بشكل انتهازي إلى ترفيه؟
تبدأ القاعات الداخلية الفخمة لسفينة "تايتانيك" بالامتلاء بالمياه ببطء. تظهر مقاطع فيديو مسقطة على أرضية وسقف وجدران مستودع في جنوب لندن التجهيزات والديكورات وهي تختفي تحت الأمواج.
ويعد هذا المشهد أحد أبرز محطات معرض"أسطورة تايتانيك: المعرض الغامر"، الذي صمم ليجعل حاملي التذاكر يشعرون وكأنهم على متن سفينة الركاب المنكوبة، عبر مزيج من عروض الفيديو وأقسام الواقع الافتراضي (VR)، حيث يرتدي الزوار نظارات خاصة.
في متجر الهدايا التابع للمعرض، تباع صفارات تذكارية لجذب الانتباه، وبطاقات بريدية تظهر السفينة وهي تغرق وسط الجبال الجليدية.
ويصطف الأزواج لالتقاط صور أمام شاشة خضراء لإعادة تمثيل الوضعية الشهيرة لليوناردو دي كابريو وكيت وينسلت في فيلم جيمس كاميرون الصادر عام 1997، عند مقدمة السفينة.
ويلهو آخرون بألعاب كمبيوتر من نوع "تجنب الجبل الجليدي"، حيث يتعين توجيه السفينة بين عوائق جليدية، أو يحتسون مشروب البروسيكو في البار.
وتبدو أقسام الواقع الافتراضي المتعددة التي تتيح للزائر السير على سطح السفينة تحت أشعة الشمس، والتجول في أروقتها الداخلية الفخمة، بل وحتى النزول في غواصة صغيرة إلى موقع الحطام تجارب شديدة الإقناع وتنقلك فعلاً إلى مكان آخر. غير أن الجزء المذكور سابقاً من التجربة، حيث يجد الزائر نفسه محاطاً بإسقاطات فيديو بزاوية 360 درجة تظهر السفينة وهي تمتلئ بالمياه، يبدو مستفزاً للذوق العام، وأكثر ميلًا إلى التلصص منه إلى التعليم أو إثارة التعاطف.
وحصل المعرض على تقييم إيجابي إلى حد كبير بلغ 4.2 على موقع "تريب أدفايزر"، حيث أثنى حاملو التذاكر على تقنيات الواقع الافتراضي، ولوحات المعلومات، وطريقة سرد القصص.
وتقول الزائرة جولي أختار، القادمة من فيرجينيا ووتر في مقاطعة سَري بإنجلترا، إنها شعرت وكأنها انتقلت إلى عالم آخر "منذ اللحظة التي دخلنا فيها من الأبواب"، وإن عنصر الواقع الافتراضي جعلها "تشعر بأنها جزء من الحياة على متن السفينة".
أما انتقادها الوحيد فكان ارتفاع سعر التذاكر، معتبرةً أن "إتاحة فرصة التقاط صورة في وضعية كيت وينسلت وليوناردو دي كابريو بدت لي تجارية بعض الشيء".
بدورها، كانت سارة ماتوك من برايتون معجبة بالتجربة بالقدر نفسه. وتقول: "لقد كان جهداً جيداً. دخلت المعرض وأنا أعلم أنه يحمل شيئاً من الابتذال، لكنني كنت دائماً مفتونة بسفينة تايتانيك منذ صغري".
ويعد هذا واحداً من ثلاث تجارب غامرة على الأقل عن "تايتانيك" تقام حالياً في المملكة المتحدة. ففي تجربة "تايتانيك: أصداء من الماضي"، وهي واحدة أخرى تقام في حي كامدن شمال لندن، يشهد الزوار لحظة اصطدام السفينة بالجبل الجليدي. وعلى خلاف معرض "أسطورة تايتانيك"، فإن هذه التجربة تعتمد بالكامل على الواقع الافتراضي.
وبعد ارتداء نظارة الواقع الافتراضي، أجد نفسي على مقربة شديدة من كبار أفراد الطاقم، ثم أسير لاحقاً نحو مقدمة السفينة، فيما تقودني الحبكة السردية إلى تلك الليلة المشؤومة. تتصاعد الموسيقى الأوركسترالية تدريجياً مع اقتراب السفينة ببطء من الجبل الجليدي، ثم يطرح العمال أرضاً عند لحظة الاصطدام. يقول أفراد الطاقم: "هيا، هيا، سننجح"، لكن سرعان ما يسمَع صوت احتكاك الجليد بجانب السفينة.
قصة "تايتانيك" هي واحدة من عشرات اللحظات التاريخية التي بات من الممكن اليوم إعادة عيشها عبر تجارب غامرة. ففي العاصمة البريطانية، يجذب معلم جديد آخر الانتباه، يتمحور حول أحد أكثر الانفجارات البركانية تدميراً في التاريخ.
تُعيد تجربة "الأيام الأخيرة لبومبي" في شرق لندن تجسيد إبادة المدينة الرومانية نتيجة نشاط جبل فيزوف عام 79 للميلاد؛ إذ تُظهر جدران إسقاط يبلغ ارتفاعها ثمانية أمتار المدينة وهي تحترق، ما يجعل الزوّار يشعرون وكأنهم محاطون بالرماد والجمر المتوهّج. وفي أحد أقسام الواقع الافتراضي، يخوض الجمهور جولة بعربة تجرّها الخيول داخل ساحة تعجّ بآلاف المتفرجين، بينما يتيح قسم آخر للزوّار التجوّل داخل منزل إحدى العائلات في مساء يوم الكارثة.
كما طُلب مني الوقوف والنظر إلى كاميرا مثبّتة في سقف القاعة لالتقاط صورة - يمكنني شراؤها لاحقاً - تُظهرني مركّباً رقمياً على خلفية من الحمم البركانية المنصهرة، بما يجعلني أبدو وكأنني أنطلق من فوهة جبل فيزوف.
تشهد هذه المعالم الغامرة الجديدة ازدهاراً ملحوظاً. فقد قُدِّرت قيمة السوق العالمية لما يُعرف بـ"الترفيه الغامر" بأكثر من 114 مليار دولار في عام 2025، وتشير التوقعات إلى أن هذا الرقم قد يصل إلى412 مليار دولار بحلول عام 2030.
ويقول متحدث باسم "بي بي سي" إن عمليات البحث في المملكة المتحدة عن عبارة "تجربة غامرة" على منصة الفعاليات "إيفنتبرايت" ارتفعت بنسبة83 بالمئة خلال العام الماضي. ووفقاً لتقرير "تطوّر التجارب الغامرة: تقرير صناعة الترفيه والثقافة الغامرة لعام 2025"، الصادر بالاشتراك بين معهد أبحاث "غنسلر" ومعهد التجارب الغامرة، فإن "الأشكال التقليدية والسلبية من وسائل الإعلام والعروض الحيّة تشهد ركوداً أو تراجعاً إلى حدٍّ كبير"، في حين أن "أنماط التجربة التي تتمحور حول مشاركة الجمهور وتفاعليته تواصل النمو".
ومع إقامة تجارب "تايتانيك" الغامرة أيضاً في لوس أنجلوس، وسينسيناتي، وهامبورغ، وسنغافورة، وكوبنهاغن، ومدن عديدة أخرى حول العالم، أثبتت السفينة المنكوبة أنها واحدة من أكثر الموضوعات شعبيةً على الإطلاق لهذا النوع من المعالم. وهناك عاملان على الأقل يجعلانها شديدة الجاذبية.
فقد كان يُفترض أن سفينة الركاب الضخمة هذه "غير قابلة للغرق"، كما أن رحلتها المشؤومة وضعت بعضاً من أكثر الناس ثراءً في العالم في مواجهة الخطر - وهم من لا يختبرون عادةً الشدائد - وهو أمر يثير الاهتمام بحد ذاته. ويقول مؤرخ "تايتانيك" تيم مالتن: "إنها واحدة من أعظم المآسي على الإطلاق، ورمز لضعف البشرية أمام القوة الهائلة للطبيعة". ويضيف: "إحدى العبارات الواردة في [أصداء من الماضي] تقول: نحن جميعاً ركّاب على متن تايتانيك، وهناك قدر من الحقيقة في ذلك. فهي تعبّر، في جوهرها، عن الحالة الإنسانية نفسها".
لا شكّ في وجود جمهور واسع متحمّس "للإبحار"؛ إذ ارتدى أكثر من45 ألف شخص نظارات الواقع الافتراضي لخوض تجربة "أصداء من الماضي" منذ افتتاحها في فبراير/ شباط، بحسب ما أفاد به المنظّمون لبي بي سي. غير أنّ بعض المنتقدين يرون أن هذه التجارب الغامرة، ولا سيّما تلك التي تتمحور حول الكوارث، تنطوي على نزعة استغلالية، لأنها تحوّل مآسي تاريخية واقعية إلى مادة ترفيهية.
هذه الانتقادات ليست جديدة: فقد وُجِّهت في السابق إلى أعمال متعددة، من أفلام مثل "تايتانيك" نفسه، إلى ألعاب فيديو كبرى مثل سلسلة Call of Duty التي تتيح للاعبين خوض معارك في صراعات تاريخية مختلفة. غير أن الطبيعة الغامرة على نحو غير مسبوق لهذه التجارب الجديدة قد تجعل التساؤل حول مدى ملاءمتها وأخلاقيتها أكثر حدّة وإلحاحاً.
في مراجعتها التي منحت فيها معرض "أسطورة تايتانيك" نجمتين فقط، وجهت آنا مولوني من صحيفة City AM اللندنية انتقادات حادة إلى أخلاقيات العرض. وتقول في حديثها إلى "بي بي سي": "بصفته معرضاً غامراً، يروج أسطورة تايتانيك لنفسه بوصفه واقعاً في منطقة وسطى بين التعليم والترفيه، لكن من ألعاب "تجنب الجبل الجليدي" إلى فرص التقاط الصور بابتسامة أمام الكاميرا، يتضح أي الجانبين يمنحه الأولوية.
لا ينبغي لأي معرض يتناول مأساة أن يبدو ممتعاً، كما أن المرور بجانب حجر جنائزي كئيب يعرض أسماء جميع من فقدوا حياتهم في الكارثة، قبل أن يساق الزائر مباشرة إلى متجر هدايا يبيع صفارات طوارئ تذكارية، يقترب من حد الفجاجة الأخلاقية".
لم يكن صناع معرض "أسطورة تايتانيك" متاحين للتعليق لـ"بي بي سي"، لكن كارل بلايك غارسيا، مدير الموقع في تجربة "تايتانيك: أصداء من الماضي"، يقر بأن ثمة اعتبارات جدية تتعلق بكيفية سرد القصص المرتبطة بمآسٍ حقيقية وقعت في الواقع. ويقول: "لست هنا لأنتقص من أي تجربة أخرى"، مضيفاً: "لكنني بالتأكيد أستطيع تمييز الجودة عندما أراها… فـ[أصداء من الماضي] لا تقوم على الحيل أو الإثارة الرخيصة لمأساة ما".
ويتابع: "أحياناً يأتي إلينا بعض الزبائن قائلين: "أتمنى لو رأيت السفينة وهي تغرق"، لكننا وجدنا هذه الفكرة غير لائقة إلى حد ما. يمكن للزائر أن يعيش لحظة اصطدام السفينة بالجبل الجليدي، لكننا لن نعرض مشهد غرقها ولا مئات الأشخاص وهم يفقدون حياتهم. هذا ببساطة ليس ما نريد القيام به".
ويبدي الأكاديمي آدم هيردمان، الذي كتب مقالاً بعنوان "ضد الغَمْر/الانغماس" في مجلة "آرت مانثلي"، تشككاً في جدوى التجارب الغامرة عموماً، إذ يقول لـ"بي بي سي" إن صعودها يمثل "تطوراً مريباً في المشهد الثقافي الحضري". وبرأيه، فإن هذه العروض تهتم بـ"جني الأموال بشكل عدواني" أكثر مما تهدف إلى تقديم تجربة ثقافية ذات قيمة حقيقية.
أما في ما يخص تجارب "تايتانيك" تحديداً، فيرى أنه "ليس من الصعب إدراك لماذا قد يبدو تحويل الموت المأساوي لأكثر من ألف شخص في عرض البحر إلى ترفيه سياحي ضخم أمراً استغلالياً إلى حد ما".
لكن لا يشاطره جميع النقاد هذا الرأي. إذ يرى أندريه لوكوفسكي، محرر قسم المسرح في مجلة "تايم آوت"، أن معرض "أسطورة تايتانيك" عرض ناجح، واصفاً إياه بأنه "عمل ضخم وصاخب ومفعم بالتقنيات، ويتناول موضوعاً ظل الناس مفتونين به منذ أكثر من قرن".
وثمة أيضاً من يجادل بأن البشر كانوا دائماً مفتونين بالمآسي على نحو قاتم" إذ يرى عالم النفس كولتان سكريفنر في كتابه الحديث Morbidly Curious ("الفضول المرضي") أن التكنولوجيا لم تفعل سوى ابتكار وسائل جديدة لإشباع هذا الافتتان. ويقول لـ"بي بي سي": "بات بإمكاننا ابتكار محاكاة غامرة ومقنعة للكوارث تجذب ملايين الأشخاص. وهذا لا يعني أن الناس اليوم أكثر انجذاباً إلى المروع مما كانوا عليه في السابق، بل إن هذه التجارب أصبحت ببساطة أكثر إتاحة".
ويضيف: "تشير أبحاثي إلى أن الفضول المرضي سِمة طبيعية تماماً، شائعة ومتفاوتة بين الناس، شأنها شأن أي سمة شخصية أخرى". ومن هذا المنظور، يرى أن التجارب الغامرة التي تتمحور حول الكوارث "ليست غير أخلاقية".
قضية أخرى مختلفة تماماً تتعلق بالدقة. إذ تتضمن المعلومات المعروضة على اللافتات في معرض "أسطورة تايتانيك" العديد من الأخطاء الإملائية وأخطاء التباعد، فضلاً عن "حقائق" تبدو محل شك، مثل اللوحة التعريفية التي تعلن أن "أهم وسائل التسلية على متن تايتانيك، كما على متن جميع سفن الركاب العابرة للمحيطات، كانت المغازلة، ولا سيما بالنسبة للركاب الأصغر سناً والعزاب".
كما لفت مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي الانتباه إلى أخطاء أخرى. فالمواد الترويجية لمعرض "أسطورة تايتانيك" تظهر السفينة وهي تصطدم بالجبل الجليدي من جانبها الأيسر، وفي ليلة غائمة ذات مياه مضطربة نسبياً. وكتب أحد المستخدمين على "فيسبوك": "نادوني مدققاً متزمتاً إن شئتم، لكن تايتانيك احتكت بالجبل الجليدي من جانبها الأيمن، لا الأيسر كما هو مصور في أعمالكم. وأيضاً، كان الظلام دامساً، والسماء صافية".
ولم يرد ممثلو المعرض على طلب "بي بي سي ثقافة" التعليق بشأن هذه المسائل المتعلقة بالدقة.
يقول ريتشارد باري، الرئيس التنفيذي لمنظمة "إكسبيرينس يو كيه" وهي الهيئة التجارية في المملكة المتحدة المكلفة بتطوير "اقتصاد التجربة" في مجال الفعاليات والمعالم السياحية - إنه لا يعلم بوجود أي جهة تعمل على وضع إرشادات أخلاقية لمنتجي العروض التاريخية الغامرة، على غرار تلك المعمول بها في المتاحف، سواء من حيث الجودة أو من حيث الملاءمة. ويرى أن السوق نفسه سيقوم في نهاية المطاف بـ"الرقابة الذاتية" على ما يعد مادة مناسبة أو غير مناسبة للاقتباس وإعادة الإنتاج.
وفي خضم التساؤلات حول جدوى هذه التجارب وقيمتها، تبقى حقيقة واحدة شبه مؤكدة: أنها ستواصل ترسيخ حضورها أكثر فأكثر في المشهد الثقافي. وكما يقول باري: "لا حدود لما يمكن إعادة إنتاجه إذا وجد الطلب".
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة