على مدى عقود، ظلّت باكستان الشريان الأساسي لتزويد أفغانستان بالقمح والدقيق، إذ اعتمدت الأسواق الأفغانية بصورة كبيرة على الإمدادات الواصلة من كراتشي وبيشاور لتأمين الخبز، السلعة الأكثر استهلاكًا في البلاد.
لكن خلال العامين الماضيين بدأ هذا الواقع يتغيّر بوضوح، مع انخفاض كبير في الواردات الباكستانية، وارتفاع ملحوظ في الإنتاج المحلي، إلى جانب توسّع غير مسبوق في المطاحن داخل البلاد، وتنويع الشركاء التجاريين نحو آسيا الوسطى وروسيا و الهند التي زارها الأربعاء وزير التجارة الأفغاني لإبرام اتفاقات.
ورغم أن البلاد لم تصل بعد إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، فإن هذا التحوّل يُعد الأكبر منذ سنوات عدة، ويحمل دلالات اقتصادية وسياسية تتجاوز حدود قطاع القمح نفسه.
يقول تقرير صادر عن مكتب الإحصاء والمعلومات في أفغانستان، إن إنتاج القمح المحلي بلغ هذا العام 5.23 ملايين طن، مع زراعة أكثر من 2.12 مليون هكتار، ويوفّر الإنتاج المحلي ما بين 60% و75% من الطلب السنوي على القمح.
وتعكس هذه الأرقام تراجع الحاجة إلى القمح والدقيق الباكستانيين، في ظل توسّع علاقات أفغانستان مع شركاء جدد باتوا أكثر موثوقية عامًا بعد عام.
ويؤكد المتحدث باسم وزارة الزراعة الأفغانية محمد حاتمي للجزيرة نت، أن "أفغانستان تمكنت على مدى العقد الماضي من القضاء على اعتمادها التاريخي على القمح والدقيق الباكستانيين، وتنويع واستقرار طريق إمدادات الحبوب بالاستفادة من الفرص الجديدة في آسيا الوسطى".
ويضيف أن البلاد "اشترت قمحًا ودقيقًا بقيمة 689 مليون دولار من أوزبكستان وكازاخستان وروسيا عام 2024، ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 750 مليون دولار هذا العام"، مشيرًا إلى توقعات بنمو يبلغ 17% في مجال القمح.
أصبحت أوزبكستان وكازاخستان وروسيا أكبر المصدّرين للقمح إلى أفغانستان، ففي عام 2024 استوردت كابل 47% من القمح والدقيق من أوزبكستان و44% من كازاخستان.
ويقول عضو غرف التجارة والصناعة خان جان الكوزي للجزيرة نت، إن "أوزبكستان احتلت المرتبة الأولى في النصف الأول من عام 2025 بـ691 ألف طن من الدقيق المصدر إلى أفغانستان، تليها كازاخستان بـ537 ألف طن".
وتحتاج أفغانستان إلى 6.87 ملايين طن من القمح سنويًا، يُوفَّر نحو 70% منها محليًا، ويأتي الباقي من مصادر خارجية.
وخلال العامين الماضيين، اتجهت واردات القمح والدقيق بوضوح نحو كازاخستان وتركمانستان وروسيا، بينما تراجعت حصة باكستان تراجعا كبيرا.
ويقول الخبير الاقتصادي عصمت الله جان للجزيرة نت، إن "اللوجيستيات والسياسة لعبتا دورًا كبيرًا في هذا التحول"، موضحًا أن "التوترات الحدودية والقيود المتكررة على حركة الشاحنات دفعت التجار إلى البحث عن بدائل أكثر استقرارًا".
ويضيف أن دول آسيا الوسطى "تقدم أسعارًا مستقرة نسبيًا وجودة عالية في الدقيق، ما جعلها خيارًا مفضلًا لدى المستوردين الأفغان"، مشيرا إلى أن هذا التحول يعد "بعدًا جيو-اقتصاديًا يقلل من نفوذ باكستان في ملف يعدّ من أهم مصادر القوة الاقتصادية في العلاقة بين البلدين".
يرى خبراء الاقتصاد أن توسّع المطاحن المحلية أثّر بقوة على سوق الدقيق، الذي شهد طفرة واضحة خلال السنوات الأخيرة، إذ تأسست عشرات المطاحن الجديدة في الولايات الشمالية والغربية، ما أوجد بديلًا محليًا للدقيق الباكستاني الذي كان يهيمن على معظم الأسواق.
ويقول صاحب مطحنة محلية عبد الخبير كاكر للجزيرة نت: "سابقًا كنّا نعتمد بشكل شبه كامل على الدقيق الباكستاني، واليوم زبائننا يفضّلون المنتج المحلي لأنه أنظف وأسرع وصولًا وأكثر استقرارًا في السعر".
ويضيف أن الإنتاج تضاعف خلال عام واحد فقط، إذ أنشِئت في السنوات الأخيرة نحو 200 مصنع دقيق مع استثمارات كبيرة في هذا القطاع على مستوى البلاد.
ويقول الباحث في الأمن الغذائي أحمد خالد للجزيرة نت، إن "أفغانستان تحتاج إلى ما بين مليون ومليوني طن من القمح والدقيق سنويًا لسد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، وإن الطلب المحلي يظل مرتفعًا، في حين يتأثر الإنتاج بالتقلبات المناخية مثل الجفاف وقلة المياه والآفات الزراعية".
ويؤكد أن "الخطر الأكبر على استدامة الإنتاج المحلي ليس سياسيًا بل مناخي، فموسم جفاف واحد قادر على قلب المعادلة وإعادة البلاد إلى الاعتماد على الواردات الباكستانية".
يعتقد محللون أن التحول الجاري يحمل مكاسب متعددة، أبرزها:
ويقول الخبير في الشؤون الاقتصادية داود نيازي للجزيرة نت، إن "الطريق لا يزال طويلًا، لكن ما تحقق، حتى الآن، يعيد رسم الخريطة الغذائية والتجارية لأفغانستان، وربما يفتح فصلًا اقتصاديًا جديدًا في تاريخها"، معتبرًا أن هذا التحول "الأكبر منذ سنوات عدة ويحمل دلالات اقتصادية وسياسية تمتد خارج حدود قطاع القمح نفسه".
والأربعاء وصل وزير التجارة والصناعة الأفغاني نور الدين عزيزي إلى الهند لجذب مزيد من الاستثمارات والبضائع.
وقالت وزارة التجارة الأفغانية في بيان إن الوزير نور الدين عزيزي سيجري محادثات مع نظيره الهندي ووزير الخارجية، وكذلك مع المتعاملين والمستثمرين.
وأضاف البيان "ستركز هذه الاجتماعات على توسيع التعاون الاقتصادي، وتسهيل العلاقات التجارية، وإنشاء فرص استثمارية مشتركة، وتعزيز دور أفغانستان في طرق العبور الإقليمية".
وتسعى أفغانستان -وهي دولة حبيسة بلا منافذ بحرية- إلى الحصول على الحبوب والأدوية والبضائع الصناعية بعد إغلاق حدودها مع باكستان في الأسابيع القليلة الماضية عقب اشتباكات مسلحة وقعت الشهر الماضي بين الجارتين وأسفرت عن مقتل العشرات.
وتشغّل الهند ميناء جابهار الإيراني المرتبط عن طريق البر بأفغانستان، وحصلت في الشهر الماضي على إعفاء من العقوبات لـ6 أشهر من الولايات المتحدة لمواصلة عملياتها، مما يقلل اعتماد كابل على ميناء كراتشي الباكستاني.
وقالت وزارة التجارة الأفغانية لرويترز إن قيمة تجارة أفغانستان عبر إيران بلغت 1.6 مليار دولار في الأشهر الستة الماضية، أي أنها أعلى من قيمة التجارة مع باكستان التي بلغت 1.1 مليار دولار.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة