في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
قبل أقل من عام، سقط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وتولت إدارة جديدة مقاليد السلطة في سوريا ، وبينما كانت هذه الإدارة تسعى لطي صفحة عقود من الاستبداد، وجدت نفسها أمام تركة ثقيلة من الفساد ونهب مقدرات البلاد. فهل تنجح في وقف مسلسل الفساد؟
ومؤخرا، كشفت تحقيقات أجرتها جهات رقابية في سوريا عن انتهاكات جسيمة تعرض لها القطاع الحكومي، على يد مسؤولين سابقين كبار اتُّهموا بإساءة استخدام السلطة، والرشوة، وإهدار المال العام.
وقدّرت الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش (جهة رسمية) -في تقرير لها- حجم الضرر الذي أصاب المال العام على خلفية الفساد بنحو نصف مليار دولار أميركي، شمل قطاعات إستراتيجية كالطاقة، والثروة المعدنية، والخدمات.
وتجري التحقيقات التي استندت إلى وثائق وأدلة، في وقت تحاول السلطات السورية الجديدة تفكيك منظومة فساد النظام السابق وتتبع أصول مسؤوليه، واسترداد أموال نظام الأسد، التي تبلغ -وفق تقرير لوزارة الخارجية الأميركية- ما بين مليار إلى ملياري دولار.
غير أن تصريحات مفاجئة، أثارت اهتمام الشارع السوري، كشف خلالها الرئيس أحمد الشرع عن شبهة "إثراء غير مشروع"، لدى قادة ومسؤولين وشخصيات مقربة من السلطة الجديدة، التقاهم في اجتماع غير رسمي بمدينة إدلب شمال البلاد.
ونقلت وكالة رويترز عن مصادر خاصة، أن الشرع حذّر المجتمعين من "إغراءات السلطة"، متسائلا عما "إذا كانوا قد خضعوا لها بهذه السرعة؟".
وبيّن الرئيس الشرع -وفق المصدر- الحاجة إلى تغيير ثقافة الاستثمار التي أرساها النظام السابق، مؤكدا عدم تسامحه مع أي شبهة فساد بين موظفي الدولة.
ورأى مراقبون في هذه الخطوة، إشارة واضحة إلى وجود حالات إثراء غير مبرر، وشبهات فساد، دفعت الرئيس لتحذير رفاق دربه -أبناء الثورة- من الانجرار وراء غواية السلطة، واستغلال المنصب الوظيفي، أو الحصول على مكاسب بطريقة غير مشروعة، بينما تراهن السلطة الجديدة على دولة قائمة على الانضباط الإداري، ومبدأ نظافة اليد، خالية من الفساد، تخضع مؤسساتها وأجهزتها للرقابة والمساءلة.
ويُعاقب قانون العقوبات السوري بالسجن لمدة تصل إلى 10 سنوات على جرائم الرشوة، واختلاس المال العام، والإثراء غير المشروع، واستغلال المنصب الوظيفي لتحقيق منفعة خاصة.
وحذر الخبير الاقتصادي عبد الستار دمشقية من مغبة تحول الحالات المحدودة من الإثراء اللافت للنظر، ضمن دائرة قريبة من السلطة، إلى كرة ثلج يزداد حجمها في ظل ما تواجهه سوريا من تحديات سياسية واقتصادية وأمنية، وانشغال بالملف الخارجي، الذي يحاول الشرع من خلاله استعادة دور سوريا الإقليمي والدولي، بعد عقود من تهميشه.
وأوضح -في حديثه للجزيرة نت- أن البلاد لا تزال تعاني من تداعيات الفساد الذي خلّفه النظام السابق عبر 6 عقود من استغلال السلطة، والتربح على حساب الشعب، ما يعني أنها غير قادرة على تحمل أي حصيلة جديدة في هذا الملف، قد تزعزع ثقة المواطن بمبادئ وتوجهات الحكم الجديد.
في حين أكد الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي أن "الإجراءات التي طالت شخصيات مقربة من السلطة أحدثت تحولا نوعيا في مسار مكافحة الفساد، يعكس إرادة سياسية حقيقية في بناء دولة لا أحد فيها فوق القانون، دولة مؤسسات لا دولة أفراد".
وقال للجزيرة نت إن "نجاح هذا الاتجاه لا يضمن فقط استقرارا اقتصاديا، بل يؤسس لشرعية سياسية جديدة، قوامها العدالة والمساءلة، ويمنح سوريا فرصة تاريخية للانتقال من دولة الريع والفساد، إلى دولة الإنتاج والمواطنة".
وتسلم النظام الجديد عقب سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي دولة تُوصف بأنها "منهارة وينخر الفساد فيها كل جانب".
ووصف وزير الاقتصاد والصناعة نضال الشعار ما رآه على الأرض عند وصوله إلى دمشق بـ"المشهد الصادم".
ولفت -خلال لقاء خاص نظمه مجلس الأعمال السوري التركي في مدينة إسطنبول أغسطس/آب- إلى أن سوريا التي تسلمتها الحكومة الجديدة كانت "مدمرة بالكامل"، مؤكدا أن حجم الكارثة تجاوز التقديرات.
وفي مؤشر قوي على جدية الدولة في إغلاق هذا الملف، شكّل الجهاز المركزي للرقابة المالية (هيئة تابعة لرئاسة الجمهورية) أكثر من 80 لجنة تحقيق متخصصة لمعالجة ملفات تورط فيها مسؤولون سابقون في حكومة النظام البائد، إلى جانب رجال أعمال ربطتهم علاقات قوية مع الرئيس المخلوع.
ونقلت وكالة "سانا" الرسمية للأنباء عن نائب رئيس الجهاز أن الأضرار والخسائر التي ألحقها الفساد بالمال العام كانت جسيمة، ما وضع على عاتق الجهاز مسؤولية كبيرة لكشف الحقائق ومحاسبة المتورطين.
ويمارس جهاز الرقابة المالية دوره الرقابي بشكل مباشر على الوزارات والإدارات العامة والهيئات ذات الطابع الإداري، إضافة إلى الشركات والمؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي، والجهات التي تتلقى إعانات من الدولة أو تسهم الدولة في رأس مالها.
كما يقوم بتدقيق الإيرادات والنفقات العامة والمنح والهبات والتبرعات المحلية والدولية، ومراجعة وتدقيق الحساب العام الإجمالي للدولة، والتحقق من استخدام الموارد بكفاءة دون هدر أو إسراف أو ضياع.
ويرى الباحث محمد البقاعي أن نجاح الطابع المؤسسي لأي نظام جديد للإدارة العامة، في مرحلة ما بعد الصراع، يتوقف على النهج الذي تتبعه الحكومة في التعامل مع الإرث السابق، وخاصة ما يتعلق منه بالفساد والمحسوبية.
وأوضح في دراسة حول "مؤسسات الخدمة العامة بعد سقوط نظام الأسد" أن الفساد كان إحدى الأدوات الرئيسية التي استخدمها النظام لتنفيذ سياساته وتحقيق أهدافه.
وأشار إلى أن عدم وجود تمويل كافٍ لاسترضاء النخب الحاكمة والجماعات التي سعى لكسب ولائها، جعل من الفساد بأشكاله المختلفة، أداة فعالة لربط كبار موظفي الدولة المدنيين والعسكريين بالنظام، من خلال المصالح المشتركة.
وأنتج ذلك -وفق الباحث- ثقافة إدارية تقوم على استسهال التسيب في العمل العام، وعدم الحفاظ على موارد الدولة، وانتشار الفساد واستساغته.
بدوره، يدعم الخبير الاقتصادي قوشجي وجهة نظر الباحث البقاعي حيث يرى أن "تحول المؤسسات العامة إلى أدوات للابتزاز والنهب، وغياب الرقابة الفعلية لصالح شبكات المصالح، التي تداخل فيها السياسي بالاقتصادي، والحزبي بالأمني، شكّل من الفساد بنية متكاملة ربطت مفاصل الدولة بشريان المنفعة الخاصة".
وأضاف للجزيرة نت أن "حالات الفساد لم تكن مجرد انحرافات فردية بل سياسة ممنهجة اعتمدتها السلطة البائدة كأداة للسيطرة وتثبيت أركان حكمها".
وأشار إلى أن هذا الواقع أفرز ثقافة عامة أضعفت الثقة بالقانون والهيئات القضائية، خاصة في ظل انعدام الفصل بين السلطات، وهيمنة الحزب الواحد على التعيينات والمناصب العليا.
تشير تقييمات الشبكة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) -التي اختارت الأسد شخصية عام 2024 لدوره على صعيد الجريمة المنظمة والفساد- إلى أن الرئيس المخلوع حصل على مليارات الدولارات من إنتاج المخدرات، وتجارة الأسلحة، وتهريب البشر، وسرقة الآثار.
وحذرت -في تقرير لها- من أن الفساد المستشري في عهده لا يزال يهدد المرحلة الانتقالية في سوريا.
ونقلت الشبكة عن دراسة أعدها البرنامج السوري للتنمية القانونية والسياسية، ومقره لندن ، أن "فشل الحكومة الحالية بقيادة الرئيس الشرع في مواجهة الجرائم الاقتصادية المتجذرة، قد يعرض جهود تحقيق العدالة والمساءلة طويل الأمد للخطر".
وحثّت الدراسة الحكومة السورية الجديدة على استعادة الأصول التي استحوذ عليها مسؤولو عهد الأسد وشركاؤهم بشكل غير مشروع، داعية إلى تعاون دولي في تتبع هذه الأصول واستردادها.
وعلقت الشبكة بالقول: "لطالما مكّن الفساد مرتكبيه من التهرب من العدالة كما حدث في دول أخرى عاشت مرحلة ما بعد الاستبداد كالفلبين وإندونيسيا وتشيلي"، ولذلك " فإن التقاعس عن العمل سيشكل إساءة للضحايا وسيؤدي إلى إدامة الإفلات من العقاب، من خلال السماح للجناة بالاحتفاظ بمكاسبهم غير المشروعة".
ورغم التحركات الإيجابية التي تقوم بها السلطات السورية الجديدة لمكافحة الفساد، ووضع ضمانات لعدم عودته، يظل السؤال حول فاعلية هذه التحركات محور نقاشات ومداولات واسعة.
وشدد الخبير الاقتصادي أحمد سلامة على أن مواجهة الإثراء غير المشروع، كحلقة من حلقات الفساد، تحتاج لإصلاحات جذرية تضمن سلامة الأداء المؤسسي في مختلف قطاعات الدولة.
ولفت إلى أن نهج رد الفعل بدلاً من النهج الوقائي، من شأنه أن يضعف الحوكمة الرشيدة، إذ لا تزال مواجهة الفساد بحاجة إلى بيئة عامة تسودها الشفافية والثقة، وسيادة القانون والعدالة.
ودعا في حديثه للجزيرة نت، إلى بناء نظام وطني للنزاهة، يعتمد على:
ورأى أن مكافحة الفساد في سوريا، بوجود إرث ضخم من ملفات النظام السابق، لا تزال حالة تفاعلية، لا وقائية؛ إذ لا يكفي -بحسب رأيه- مجرد زيادة التحقيقات وتوقيف الفاسدين لمعالجة هذا الثقب الأسود، بل لا بد من اتباع نهج شامل في البناء والإصلاحات التشريعية القانونية والاقتصادية، لسد الثغرات الضعيفة في قطاعات العمل بشقيها الرسمي والخاص، منعا لتسرب الفاسدين منها.
وفي سياق متصل، تؤكد منظمة الشفافية الدولية أن الإبلاغ عن المخالفات أكثر الطرق فاعلية للكشف عن الفساد، والممارسات غير القانونية، ومنعها في وقت مبكر.
وترى المنظمة أن الإفصاح للسلطات ذات الصلة عن معلومات حول الفساد، أو أي مخالفات أخرى ترتكب، من شأنه أن يوفر ملايين الدولارات من الأموال العامة، كما يجنب البلاد مشكلات اقتصادية ذات تداعيات عميقة مثل التهرب الضريبي وغسل الأموال.
وأرجعت -في تحليل لها حول "دور المبلغين عن المخالفات"- أسباب قلة عدد الإبلاغات إلى:
ودعت المنظمة الدول إلى سنّ قوانين تسمح للمواطنين والموظفين بالإبلاغ عن الفساد وإساءة استخدام السلطة وسرقة المال العام والإثراء غير المشروع، من دون خوف أو ملاحقة.
كما دعت إلى سنّ تشريعات تحمي هوية المبلِّغين وتمنحهم حصانة قانونية تضمن عدم ملاحقتهم بتهمة تسريب معلومات.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة