يشهد الاقتصاد العالمي اليوم مرحلة استثنائية من التعقيد تتراكم فيها الديون ويزيد عجز الاقتصادات الكبرى، وتتراجع قطاعات حيوية كالعقارات والتصنيع، في حين تتعرض سلاسل الإمداد لاضطراب متواصل بفعل الحروب التجارية، وتتفاقم التوترات الجيوسياسية من أوروبا إلى الشرق الأوسط وآسيا.
لم يعد هذا المزيج المتشابك يسمح بقراءة تعتمد على مؤشرات وقتية، بل يفرض تحليلا عميقا للبنية الهيكلية للاقتصادات وما تحمله من ضغوط متصاعدة، فالقرارات النقدية وعلى رأسها خفض سعر الفائدة من جانب الاحتياطي الاتحادي الأميركي ليست سوى انعكاس لواقع يزداد هشاشة، وليست سببا منفردا لتغيير المسار، ومن هنا يصبح من الخطأ الحكم على مستقبل العملات والسلع الإستراتيجية من خلال حركة يومية أو قرار لحظي، إذ إن المسار الحقيقي يتحدد بما يجري في الأسس العميقة.
وفي هذا السياق، نحلل مستقبل الدولار و السندات ، واليورو، والذهب، والنفط في ضوء هذه المؤشرات البنيوية التي تكشف ملامح المرحلة المقبلة.
خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي معدلات الفائدة في الأسبوع الماضي للحد من المخاطر المتزايدة على الاقتصاد الأميركي، لكنه أرفق قراره بنبرة متحفظة بشأن وتيرة الخفض ومقداره مستقبلا، مما انعكس سريعا على الأسواق، إذ تراجع مؤشر الدولار مؤقتا قبل أن يستقر عند 97.64 نقطة، بينما ارتفعت عوائد السندات إلى 4.133% لأجل 10 سنوات و4.75% لأجل 30 عاما.
وتؤكد هذه التطورات أن قرارات الفدرالي ليست سوى انعكاس لما يجري في عمق الاقتصاد الأميركي ومن هنا، فإن فهم مسار الدولار والسندات يستوجب أولا قراءة ما يحدث داخل البنية الاقتصادية الأميركية نفسها، وهو ما سنتناوله في هذا الطرح.
تُظهر المؤشرات أن سوق العمل الأميركي يعيش حالة ضغط متزايدة فقد:
مسار الذهب لن يُحسم بعامل اقتصادي منفرد، بل بمزيج من الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية التي تعصف بالعالم وكلما تصاعدت وتيرة هذه الأزمات، تعززت القناعة بأن الذهب سيواصل الارتفاع
واصل الائتمان الاستهلاكي ارتفاعه، إذ زاد في يوليو/تموز الماضي وحده 16 مليار دولار ليبلغ 5 تريليونات، وهو ثالث أعلى مستوى على الإطلاق، في حين ارتفع خلال 5 أشهر بـ103 مليارات.
والائتمان الاستهلاكي هو الأموال التي يقترضها الأفراد لتمويل حياتهم اليومية مثل بطاقات الائتمان أو قروض السيارات والدراسة.
وفي هذا السياق، قفزت ديون بطاقات الائتمان بنحو 10 مليارات دولار لتصل إلى 1.3 تريليون، وهو الأعلى منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بينما بلغ الائتمان غير المتجدد مثل قروض السيارات والطلاب مستوى قياسيا عند 3.75 تريليونات دولار.
لكن هذا الارتفاع لا يُعد إيجابيا فالإنفاق بات قائما على ديون بدلا من دخل مستدام، مما يخلق طلبا وهميا سرعان ما ينقلب إلى أزمة سداد تضغط على البنوك والاقتصاد.
وقد قفزت معدلات التخلف عن السداد لبطاقات الائتمان عند أعلى مستوى منذ 2012، وكذلك الديون المتأخرة لأكثر من 90 يوما قد بلغت 12% في الربع الثاني 2025 وهو الأعلى منذ 2011.
كما تخلف مقترضو السيارات عالية المخاطر بنسبة 5% لأول مرة في التاريخ أي ما يفوق مستويات أزمة 2008 بأضعاف، كذلك ارتفع التعثر في الرهون العقارية التجارية للمكاتب إلى 11%، وهو الأعلى على الإطلاق، وإلى جانب ذلك، تراجعت درجات الائتمان للأميركيين بأسرع وتيرة منذ الركود العظيم (1929)، بانخفاض نقطتين هذا العام، مما يعكس تدهور القدرة الفعلية للأسر على خدمة التزاماتها.
مع اقتراب استحقاق نحو 9 تريليونات دولار خلال الأشهر المقبلة، ستلجأ واشنطن إلى إصدار ديون جديدة بعوائد أعلى، مما يرفع تكلفة الاقتراض ويزيد الضغط على العملة.
واصلت الصين بيع السندات الأميركية، حيث خفّضت حيازتها في يوليو/تموز بمقدار 26 مليار دولار لتصل إلى 730 مليارا، وهو المستوى الأدنى منذ عام 2008 .
من جانب آخر، غيّر مورغان ستانلي إستراتيجيته ونصح العملاء بتقليص حيازاتهم من السندات، وزيادة الذهب إلى مستويات 20% معتبرا أن السندات لم تعد وسيلة آمنة في مواجهة التضخم ، وأوصت شركة مايكروسوفت بالتحوط بنسبة 20% بالذهب، ووصفت السندات الأميركية بأنها "فخ للعوائد" في ظل تفاقم العجز المالي.
انخفض مؤشر مجلس المؤتمرات الاقتصادي بنسبة 0.6% في أغسطس/آب إلى أدنى مستوياته في عقد كامل، وهذا المؤشر المركب يُستخدم لاستشراف الاتجاهات المستقبلية للاقتصاد ويضم 10 عناصر أساسية مثل متوسط ساعات العمل الأسبوعية في التصنيع، وطلبات إعانة البطالة الأولية، والطلبيات الجديدة، وتصاريح البناء، وأسعار الأسهم، ومنحنى العائد، وثقة المستهلك، ومؤشر الموردين.
وتراجع مؤشر معهد إدارة التوريد للتصنيع إلى 46.5 نقطة، وهو ما يؤكد استمرار الانكماش الصناعي، إذ إن أي قراءة دون الخمسين تعكس تراجعا.
أما مؤشر كاس للشحن، الذي يقيس حجم الشحنات داخل الولايات المتحدة عبر مختلف وسائل النقل، فقد هبط إلى أدنى مستوياته منذ أزمة 2008، مشيرا إلى ضعف في الإنتاج والطلب.
وبالتوازي مع هذه المؤشرات، تعاني قطاعات رئيسية من ضغوط واضحة:
ويقود استمرار تراكم المؤشرات السلبية إلى نتيجة حتمية، تشمل ضعف الدولار، واهتزاز الثقة في الاقتصاد الأميركي، وارتفاع عوائد السندات مستقبلا، فالحكومة تعتمد بشكل متزايد على الاستدانة لتمويل التزاماتها.
ومع اقتراب استحقاق نحو 9 تريليونات دولار خلال الأشهر المقبلة، ستلجأ واشنطن إلى إصدار ديون جديدة بعوائد أعلى، مما يرفع تكلفة الاقتراض ويزيد الضغط على العملة.
وفي ظل محدودية الأدوات المتاحة وتصاعد التغيرات الجيوسياسية عالميا، يعزز هذا الوضع احتمالات أزمة مالية جديدة ويضع الاحتياطي الاتحادي ( البنك المركزي الأميركي) تحت ضغوط متصاعدة قبل اجتماعه المرتقب في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهكذا، فإن مسار الدولار والسندات لم يعد رهن قرارات السياسة النقدية وحدها، بل أسير أزمة ثقة شاملة تضرب العمق البنيوي للاقتصاد الأميركي.
مسار الدولار والسندات لم يعد رهن قرارات السياسة النقدية وحدها، بل أسير أزمة ثقة شاملة تضرب العمق البنيوي للاقتصاد الأميركي.
تتحدد ملامح اليورو بما يجري داخل الاقتصادات الكبرى للقارة، إذ تكشف الأرقام عن أعباء هيكلية متفاقمة:
وتتزامن هذه الضغوط المالية مع تحديات سياسية من أزمة الحكم في فرنسا إلى صعود التيارات اليمينية، إضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي يُتوقع أن تدخل مرحلة أكثر سخونة مع الشتاء، كما تواجه أوروبا انكشافا كبيرا في ملفات الطاقة والغذاء وسلاسل التوريد، مما يزيد هشاشتها أمام الأزمات العالمية.
وقد انعكست هذه الأوضاع مباشرة على أسواق الدين، إذ ارتفعت عوائد السندات الألمانية لأجل 10 سنوات إلى ما فوق 2.7%، وهو الأعلى منذ 14 عاما، بينما واصلت عوائد السندات الفرنسية لأجل 30 عاما الارتفاع لأربعة أشهر متتالية لتقترب من مستويات قياسية.
في ظل هذه الأعباء، يبقى اليورو تحت الضغط، وارتفاعاته الأخيرة لم تكن نتيجة قوة داخلية، بل انعكاسا مباشرا لضعف الدولار، وقد يستفيد من استمرار هذا الضعف وتخوفات المستثمرين من العملة الأميركية، ولكن قوته ستبقى قائمة على هشاشة الآخرين لا على صلابته الذاتية.
يبقى اليورو تحت الضغط، وارتفاعاته الأخيرة لم تكن نتيجة قوة داخلية، بل انعكاسا مباشرا لضعف الدولار، وقد يستفيد من استمرار هذا الضعف وتخوفات المستثمرين من العملة الأميركية، ولكن قوته ستبقى قائمة على هشاشة الآخرين لا على صلابته الذاتية.
يبقى النفط أحد أهم مؤشرات الاستقرار والاضطراب في الاقتصاد العالمي، متأثرا بتراجع الطلب وتباطؤ الاقتصادين الأميركي والصيني، وعلى جانب العرض، قررت مجموعة أوبك بلس زيادة الإنتاج تدريجيا، فأضافت في سبتمبر/أيلول نحو 547 ألف برميل يوميا، وتستعد لزيادة إضافية تقارب 137 ألف برميل يوميا في أكتوبر/تشرين الأول، في محاولة لاستعادة حصتها السوقية بعد سنوات من خفض الإنتاج.
في المقابل، تضغط العوامل الجيوسياسية في الاتجاه المعاكس، وهي تشمل الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات على الخام الروسي، إضافة إلى التوترات في الشرق الأوسط وبحر جنوب الصين، الأمور التي تزيد هشاشة السوق، أما التحول العالمي نحو الطاقة البديلة فيزيد من عدم اليقين على المدى المتوسط.
وبين ضعف الطلب وزيادة المعروض من جهة، وتصاعد المخاطر الجيوسياسية من جهة أخرى، تبقى الأسعار رهينة تقلبات حادة، في نطاق يتراوح بين 60 و75 دولارا للبرميل خلال الأشهر المقبلة، مع احتمالات صعود مؤقتة إذا تفاقمت التوترات، لكن من دون استقرار طويل الأمد.
الإجابة لا تكمن في رقم لحظي أو قرار من الفدرالي أو البنوك المركزية فقط، بل في شبكة معقدة من العوامل العالمية المتداخلة اقتصاديا وجيوسياسيا التي دفعت الجميع إلى التمسك بالذهب كملاذ للتحوط، فمن الولايات المتحدة إلى الصين، يواجه العالم تحولات هيكلية وأزمات متراكمة.
تبقى أسعار النفط رهينة تقلبات حادة، في نطاق يتراوح بين 60 و75 دولارًا للبرميل خلال الأشهر المقبلة، مع احتمالات صعود مؤقتة إذا تفاقمت التوترات، لكن من دون استقرار طويل الأمد.
يزداد المشهد ارتباكا مع تصاعد الحروب التجارية والقيود على سلاسل الإمداد، التي رفعت الأسعار وأشعلت التضخم وقلّصت أرباح الاستثمار، ودفعت المستثمرين إلى البحث عن ملاذات أكثر أمانا لحماية استثماراتهم من التآكل.
وعلى الجانب الجيوسياسي، تتفاقم المخاطر، فالحرب الروسية الأوكرانية تقترب من مرحلة أكثر سخونة مع احتمالات مواجهة مع الناتو ، وبحر جنوب الصين يشهد احتكاكات متصاعدة، فيما يشهد الشرق الأوسط إعادة ترتيب وصياغة لتحالفاته التي استمرت لعقود، وسط مؤشرات متزايدة على تصعيد أكبر خلال الأشهر المقبلة.
وفي مواجهة هذه الصورة، لعبت البنوك المركزية دورا متزايدا في دعم الطلب على الذهب، إذ ارتفعت نسبة البنوك المركزية التي تعيد تنظيم حيازاتها من الذهب بالشراء والبيع بانتظام من 37% في 2024 إلى 44% في 2025، بدلًا من الاكتفاء بالاحتفاظ به من دون تغيير.
وخلال الربع الأول من 2025، بلغت مشتريات البنوك المركزية الصافية من الذهب 244 طنا صافيا، ثم أضافت في يوليو/تموز 10 أطنان رغم ارتفاع الأسعار.
أما الصين، فقد واصلت تعزيز احتياطاتها الرسمية لتصل إلى 2299 طنا بنهاية يونيو/حزيران الماضي، بما يمثل 6.7% من إجمالي احتياطاتها الأجنبية، وهو أعلى مستوى لها منذ عقود.
هذه الصورة المتشابكة توضح أن مسار الذهب لن يُحسم بعامل اقتصادي منفرد، بل بمزيج من الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية التي تعصف بالعالم وكلما تصاعدت وتيرة هذه الأزمات، تعززت القناعة بأن الذهب سيواصل الارتفاع، ليبقى الملاذ الأبرز في عالم يزداد اضطرابا.
أما المستثمر، فعليه أن يكون أكثر حذرا فالأزمات حين تطرق الأبواب لا تستأذن، والأرقام خير برهان على هشاشة الواقع وفي مثل هذا المشهد، تبقى الملاذات الآمنة الخيار الأكثر عقلانية.