آخر الأخبار

"إنّما يُجنى الهدى من صُحبة الخِلّ الأمين".. الصداقة الافتراضية بين الوهم والحقيقة!

شارك

منحتنا صفحات وسائل التواصل الاجتماعي كما هائلا من الأصدقاء والمعارف! ماذا لو أمعنت النظر في هؤلاء وتصفحت أسماءهم، كم واحدا منهم يمكنك أن تعده صديقا حقيقيا؟ وكم اسما من هؤلاء تشعر أن معرفته ومتابعة صفحته وكتاباته تعد إضافة لك على صعيدك الشخصي؟

في عصر السرعة والتواصل الافتراضي تراجعت علاقات الصداقة العميقة لصالح السطحية والسريعة منها، مما أدى إلى قلة التعاطف، وضعف مهارات الإصغاء بسبب الإشباع الرقمي إذا جاز التعبير! فصار المرء يتوهم كثرة الأصدقاء من حوله لكن ذلك لا يدفع عنه شعوره بالوحدة حين يلم به خطب ما!

كيف تبدو الصداقة الافتراضية في زماننا؟

تغير مفهوم الصداقة اليوم مع هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، وصار كثير من الناس يختصرون جزءا من معنى الصداقة بمتابعة صفحات بعضهم، وتقاس متانة هذه الصداقة والثبات عليها لدى بعضهم بالمواظبة على تتبع الصفحات والشعور بالدعم الوهمي المتمثل بالضغط على زر الإعجاب أو بالتعليق على منشور أو مشاركة تغريدة!

بالنظر إلى واقعنا الحالي سندرك أن التواصل الإنساني الحقيقي يكاد يغيب! فقد بات الناس يهربون من الواقع والعلاقات التي تخفي وراءها كل الاحتمالات من غدر ووفاء، إلى واقع افتراضي تتقلص فيه الاحتمالات السلبية والسيناريوهات المؤذية إلى حد بعيد، فالصداقة الافتراضية أو الرقمية -إذا جاز التعبير- تبقي المرء في منطقة شبه آمنة بين الوهم والحقيقة، لكنها تفجر أسئلة وجودية كثيرة حول علاقاتنا الإنسانية؛ هل ما زال الإنسان يبحث عن الصديق الحقيقي في ظل حضور التكنولوجيا الطاغي؟ ألا يكتفي كثير من الناس اليوم بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي بدلا من الجلوس مع الأصحاب أو محادثتهم؟ ألا تبدو صفحات التطبيقات التي نتجول فيها دون أعباء ولا مسؤوليات أكثر جاذبية من علاقاتنا مع الناس والأصدقاء في الواقع؟

في الحقيقة تبدو الصداقات الافتراضية أكثر جاذبية في زماننا الحاضر، لكن ذلك لا يمنعنا من رؤية ما وصلت إليه العلاقات من ضعف وسطحية بسبب سرعة الحياة واعتمادها على التكنولوجيا اعتمادا كبيرا يكاد يلغي دور الإنسان في حياة الآخرين.

مصدر الصورة دراسات تؤكد أن دعم الأصحاب نفسيا واجتماعيا يرتبط بانخفاض التوتر وارتفاع معدل الرضا (غيتي)

خيط رفيع يفصل بين الصداقات الافتراضية والعزلة

لا بد أنكم سمعتم في محيطكم عن حالات انعزال وانزواء كثيرة، بات أصحابها يوصفون بالانطوائية، على الرغم من حضورهم الدائم في وسائل التواصل الاجتماعي.

إعلان

يقال إن العزلة بيت السلام، لكن يقال أيضا إن الإنسان بحاجة إلى شخص ليخبره بأن العزلة نفعته وحققت سلامه النفسي!

وعن العزلة قال الإمام الشافعي:

أنست بوحدتي ولزمت بيتي

فطاب الأنس لي وصفا السرور

وأدبني الزمان فلا أبالي

هجرت فلا أزار ولا أزور

بعيدا عن التنظير، هل يجب إقناع من يؤمن بجمال الانزواء وينعم بفيء العزلة، بأهمية العودة إلى الواقع، وإنشاء أو تغذية الصداقات الواقعية والعناية بالتواصل الحقيقي؟ وهل يمكن ذلك فعلا؟

بداية لابد من الوقوف على أسباب هذه العزلة، ويأتي في مقدمتها فقد الجليس الونيس، وقسوة الأحباب وقلة الأصحاب وخيبة الأمل وضيق الصدر بالناس. كحال الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه الذي قال: "أنت وطني أيتها العزلة، لقد طال اغترابي في بلاد المتوحشين، فها أنا ذا أعود إليك أيها الوطن وعيناي تذرفان الدموع".

أما دوستويفسكي الروائي والفيلسوف الروسي فيقول موضحا سبب ابتعاده عن الأصحاب والأحباب عامة: "أنا فارغ تماما، وليس لدي ما أقدمه من أجل أن تدوم علاقتي بأحد، وبإمكانك أخذ هذا الكلام سببا كافيا للابتعاد عني".

ويقول شاعر آخر معبرا عن رأيه في اعتزال الناس بموضوعية تبدو أقرب للمنطق العام والفكر الإسلامي:

لقاء الناس ليس يفيد شيئا

سوى الهذيان من قيل وقال

فأقلل من لقاء الناس إلا

لأخذ علمٍ أو إصلاح حال

فصحبة الأخيار للقلب دوا

تزيد للقلب نشاطا وقوى

وصحبة الأشرار داء وعمى

تزيد للقلب السقيم سقما

مصدر الصورة خيط رفيع يفصل بين مودة متينة دائمة وود ضعيف رخو العرى إنه العتاب الشفيف (بيكسلز)

الصداقة من منظور علم النفس الاجتماعي

تؤكد أحدث الدراسات في علم النفس الاجتماعي أن دعم الأصحاب نفسيا واجتماعيا يرتبط ارتباطا مباشرا بانخفاض التوتر وارتفاع معدل الرضا عن النفس والحياة، ويؤثر تأثيرا إيجابيا في سلوك الفرد. ويبدأ بمناقشة موضوع الصداقة بتحديد مفهومها وإطارها العام، فالصداقة حاجة إنسانية نفسية واجتماعية، من الصعب أن يستغني عنها المرء في حياته. وهي علاقة اجتماعية تربط شخصين أو أكثر، وتقوم على أساس من الثقة والمودة المتبادلة. فالصديق الحقيقي مرآة الروح، ووجه الحياة المشرق، معه يحلو العمر، وبه تزهر الأيام. وقد تحدثت كثير من الأبحاث الاجتماعية عن أهمية وجود الصديق في حياة الإنسان بوصفه سندا ودعما للصحة النفسية، وأساسا من أسس التوازن العاطفي.

يرى عالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو أن الصداقة حاجة أساسية تضمن للمرء شعوره بالقبول والمحبة والانتماء والأمان، ويرى أنها تلي مباشرة حاجات الأمن الجسدي لدى الإنسان، لأنه لا يشعر باكتماله ولا تتحقق طمأنينته إلا حين يجد من يشاركه الاهتمامات، ويفهم لغته الداخلية، وهذا ما يفسر بحثنا الدائم عن الشبيه النفسي، فالصداقة الحقيقية المتزنة تشعر الفرد بأنه مرئي ومفهوم ومقبول كما هو، مما يعزز تقديره لذاته ويخفف من شعور القلق والوحدة إذا ما باغتاه.

أما كارل يونغ عالم النفس السويسري فيرى أن الصداقة مرآة لهوية الإنسان، فالصديق يشبه الظل ويمثل الجانب المكمل للشخصية؛ أي أننا ننجذب غالبا إلى من يظهر فينا ما نخفيه أو نفتقده. وهذا ما يجعل من علاقة الصداقة القوية نوعا من التكامل النفسي، إذ يرى كل طرف في الآخر ما ينقصه أو ما يعزز توازنه الداخلي، لأن الصداقة الحقيقية تساعد الإنسان على النمو النفسي، وتتيح له التعبير عن ذاته في مساحة آمنة.

ومن جهة علم الاجتماع النفسي يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم أن الصداقة علاقة اجتماعية تبادلية اختيارية حرة ومسؤولة، تقوم على الاختيار الواعي لا الإلزام الاجتماعي، لذا من الطبيعي أن تعكس شخصية المرء من خلال اختياراته، وهذا ما يمنحها بعدا أخلاقيا وإنسانيا خاصا. وهي علاقة مهمة ولبنة أساسية من اللبنات التي يقوم عليها عماد أي مجتمع ناجح ومتماسك، يرتكز على الثقة والتعاون والتضامن والتكافل.

مصدر الصورة تساعد الصداقة القوية من منظور نفسي اجتماعي في الحفاظ على التوازن بين الذات والآخر (بيكسابي)

هل ينبغي أن نختار أصدقاء يشبهوننا؟

في سياق درء الخلاف والحفاظ على الود قد نتساءل: هل ينبغي أن نختار أصدقاء يشبهوننا بالطباع والأخلاق والمبادئ؟

إعلان

باعتقادي ليس بالضرورة أن يشبهنا الصديق بالطباع والأخلاق حد التطابق. أما المبادئ فالأمر يختلف باختلاف الشخصيات ومرونتها وقدرتها على الثبات وحماية النفس من التأثر بما يجرح مبدأ أصيلا لديها.

دعونا نغير السؤال: هل يمكن أن ننسجم مع من يخالفنا في المبدأ والاعتقاد؟ إذا كان إنسانا بحق فهذا ممكن! لكن الصداقة الحقيقية لا يمكن أن تكتمل إذا زادت الاختلافات، وتعاكست الاتجاهات، فكيف يستمتع المرء بصحبة من لا يتفق معه في مسائل أساسية وقضايا جوهرية في الحياة والمعتقد! وكيف يعين على الحق إن اختلفت الأفكار وتباعدت الآراء!

يقول الإمام الشافعي:

صديق ليس ينفع يوم بؤس

قريب من عدو في القياس

الصديق الحقيقي هو أفضل معالج نفسي!

لا بد أنكم سمعتم مثل هذه العبارة من قبل، أو عايشتموها فعلا. فكثيرا ما يحتاج المرء حين تضيق به الدنيا إلى جلسة هادئة مع صديق مقرب، وكثيرا ما يمر الإنسان بمواقف مختلفة في الحياة لا يحتاج سوى مستمع جيد وقلب محب حتى يشعر بالتخفف من الأعباء والهموم! تعد الصداقة الحقيقية في علم النفس وسيلة إيجابية وفعالة من وسائل العلاج النفسي، وتعد أداة للوقاية من الاكتئاب والقلق. كما أكدت بعض الدراسات الحديثة أن الأشخاص الذين يملكون صداقات متينة يعيشون حياة أطول، ويكونون أقل عرضة للأمراض النفسية والجسدية.

تساعد الصداقة القوية من منظور نفسي اجتماعي في الحفاظ على التوازن بين الذات والآخر، وبين الحاجة والاختيار، وبين العاطفة والعقل. فوجود الصديق الصادق المحب وحضوره ينشر في النفس عبقا من حبور وطمأنينة وأمان، وبالمقابل فإن حضوره الزائف يمكن أن ينهك النفس ويتلفها.

يقول الشاعر:

أخوك الذي إن تدعُه لملمّة

يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب

ويقول شاعر آخر في قصيدة تعرف بـ(رفيق الدرب)، واصفا جمال الصداقة، ودفء الشعور:

كم حملت الهم عني

عندما كلت يميني

ولكم آزرتني في

أمر دنياي وديني

إنما يجنى الهدى

من صحبة الخل الأمين

من يسر في الروض

يستنشق عبير الياسمين

مصدر الصورة الصديق الحق يترك باب العتاب الرقيق مفتوحا كي لا تتراكم أعباء التفاصيل التي قد تفتح ثغورا لسوء التفاهم (شترستوك)

ماذا عن الصداقة والعتاب؟

يقال إن العتاب صابون القلوب. وعن الصبر والعتاب في الصداقة يقول مصطفى صادق الرافعي :

"واعلم أن أرفع منازل الصداقة منزلتان: الصبر على الصديق حين يغلبه طبعه فيسيء إليك، ثم صبرك على هذا الصبر حين تغالب طبعك لكي لا تسيء إليه.

وأنت لا تصادق من الملائكة، فاعرف للطبيعة الإنسانية مكانها فإنها مبنية على ما تكره، كما هي مبنية على ما تحب، فإن تجاوزت لها عن بعض ما لا ترضاه ضاعفت لك ما ترضاه فوق زيادتها بنقصها، وسلم رأس مالك الذي تعامل الصديق عليه".

أما الشاعر العباسي بشار بن برد فقد حدثنا منذ زمن عن عتاب الأصحاب، وأكد لنا أنه ما من امرئ يخلو من عيب أو صفة لا تروق لصاحبه، وعليه أن يتقبل ذلك، ويقيس حسنات المرء أو إيجابياته بمساوئه، ثم ينظر في نفسه إن كان يريد الحفاظ على صحبته أو لا:

إذا كنت في كل الذنوب معاتبا

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحدا أو صلْ أخاك فإنه

مفارق ذنب مرة ومُجانبه

خيط رفيع يفصل بين مودة متينة دائمة وود ضعيف رخو العرى؛ إنه العتاب الشفيف. فالصديق الحق يترك باب العتاب الرقيق مفتوحا كي لا تتراكم أعباء التفاصيل التي قد تفتح ثغورا لسوء التفاهم، وأبوابا لسوء الظن. والصديق الحق هو الذي يتوخى فتح باب العتاب على مصراعيه، كي لا تفيض النفس البشرية بما فيها من نواقص تتكشف في نظرتها للأمور بغضب ونزق وطيش وتسرع وعصبية، فلا يبقى بعد ذلك مجال لسد الثغور ورتق الفتوق، فالصداقة علاقة شفيفة، تجرحها ريشة العتاب إذا ما قسا، وتلوثها عثرات النفس إذا ما تمادت في مد بساط العتاب وكشف المستور.

أبسط ما في الأمر ألا يشعر المرء أنه دائما على صواب، أن يحاول أن يكون موضوعيا، أن يحاول أن يفهم ويتفهم ما دعا صاحبه إلى ما أزعجه منه، قبل أن يلتمس له أعذارا. هل يبدو ذلك صعبا؟ يا للأسف إنه أصعب مما يمكن أن تتخيل، فكبرياء النفس وحظوتها عند صاحبها تشكل غشاوة أمام عينيه!

يصور لنا الشاعر أبو فراس الحمداني صورة إنسانية فنية رفيعة المستوى في أسلوب تعامله مع أصدقائه، يعبر فيها عن فلسفته الخاصة تجاه مفهوم الصداقة، ويعكس بذلك نبله وسماحة نفسه وطيب أصله واتساع صدره، إذ يقول:

إعلان

ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني

ليست مؤاخذة الإخوان من شاني

يجني الخليل فأستحلي جنايته

حتى أدل على عفوي وإحساني

إذا خليلي لم تكثر إساءته

فأين موضع إحساني وغفراني

يجني علي وأحنو صافحا أبدا

لا شيء أحسن من حان على جان

أما الشاعر كثيّر عزة فيحدثنا عن مصير من يكثر من تتبع هفوات الأصدقاء ومعاتبتهم، فيقول:

ومن لا يغمض عينه عن صديقه

وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

حدثتني صديقة ذات يوم أنها تحرص دوما على إبقاء باب العتاب مفتوحا برفق مع الأصحاب، لكنها اكتشفت أن للعتاب أصولا لا يتقنها كل الناس، مما زاد الأمر سوءا وأدى إلى قطع العلاقة تماما، فبعض الناس حين تصارحها وتبدي لها عذرك لا تتقبله ولا تعطي محاولتك أي قيمة لأنها لا تقرؤها على أنها جهد يبذل في سياق الحفاظ على هذه العلاقة!

يقول الإمام الشافعي:

وإذا الصديق أسى عليك بجهله

فاصفح لأجل الود ليس لأجله

غير أن بعض الناس يظنون أن العتاب هو آخر مراحل العلاقة، فإذا عوتبوا أو عاتبوا أنهوا العلاقة ولم يتركوا للآخر مجالا لتفسير تصرفه وتوضيح فكرته! وإن شرح وفسر وسوغ أعرضوا عن قبول عذره أو محاولة تفهم رؤيته للموقف.

والنتيجة ببساطة هي أن العتاب لا يليق بكل النفوس!

يقول الشاعر:

وما الود إلا عند من هو أهله

وما الشر إلا عند من هو حامله

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار