ربما الفكرة الأساسية لهذا المقال هي محاولة النجاة من شعوري الخاص بالخطر: خطر العدم وخطر الحضور. الخطر الأول يأتي من حرب المعدات العسكرية المثالية، والخطر الثاني من الصور الفوتوغرافية المثالية.
عرف هذا العام قسوة لا نظير لها، فلم نكن مستعدين لما شهدته حواسنا وانسلّ إلى وعينا ولاوعينا من مشاهد ومواقف وتجارب جعلتنا على تماس مباشر مع خطر التشوه، لا الموت فحسب.
فهل نجونا تماما؟ وهل خطر الإبادة أو الحرب التي لا تعرف رحمة هو الخطر الوحيد الذي يهدد شعورنا الإنساني بالحاجة إلى ركن جميل لنحيا فيه؟ وهل للجمال علاقة بالسياسة؟ تقول مرآتي إنني جميلة، وتقول صور الحسناوات إنني خارج الزمن. ما معنى الجمال؟ وهل هو قادر على مواجهة هذا العالم؟
يرى دوستويفسكي أن الجمال سوف ينقذ العالم. تبدو هذه العبارة مثالية اليوم، إذ تسيطر على عالمنا المصالح والأسواق وتديره القوى العسكرية العظمى. في جوهرها، هذه العبارة دعوة إلى مقاومة القبح الأخلاقي والجوع الروحي الذي يبتلع الإنسان المعاصر. فالجمال هنا فعل مضاد للعنف وللعبث.
يرى الفيلسوف الفرنسي المشتغل بالجمال والسياسة جاك رانسيير أن الجمال لم يكن يوما بعيدا عن السياسة أو بمنأى عنها، فكل مشهد جماعي هو توزيع للحس، أي إن ما يسمح أن يرى أو يسمع هو قرار سياسي.
الجمال هنا ليس رفاهية، بل قرار؛ مشهد احتجاج، لوحة جدارية، سيارة تضرم، أو أزياء تعكس الرفض، كلها تعدّ لقطات جمالية تقاوم. وبدلا من أن يكون الجمال مجرد زخرفة، يصبح لغة فعل: الجمال سلاح، بمعنى أنه يقاوم خيباتنا اليومية المميتة.
بهذا المعنى تغدو نضالات الشعوب من أجل الحرية فعل جمال، وهتافات الذين مشوا في شوارع العواصم في العالم فعل جمال، وصبرنا على فتك الحرب فعل جمال.
وسط الأزمات والمجاعات والقتل والأمراض والأوبئة التي تفتك بالعالم اليوم، لا يكتفي الجمال بأن يكون زينة، بل يصبح ملاذا ومقاومة، كيف؟ لأنه، وبحسب دراسة في علم الجمال، ملاذ للخبرة الجماعية، أي ما هو جدير بالاهتمام، ما يغدو دستورا إدراكيا للقيم التي نؤمن بها، وهكذا يصبح الجمال قوة ناعمة في مواجهة قسوة العالم. لماذا؟ لأن تذوق الجمال يتخطى وقتها متعة عابرة ليصبح خبرة تجلّ، تؤكد ما هو جدير بالاهتمام بما يتجاوز اللحظة.
في كتابات عالم الاجتماع الأميركي دي بوا، نراه يؤكد أن الجمال قوة سياسية قادرة على كسر هياكل القمع، فعندما يشاهد المرء لوحة، أو يستمع إلى مقطوعة موسيقية، أو يدهش بمنظر طبيعي، فإنه يختار بنفسه أن يبقي على إنسانية في وجه معاناة لا تحصى.
وهكذا، بالمعنى نفسه، تغدو مشاهد الصحافيين يركضون خلف الحقيقة، والأطفال يلعبون وسط الركام، والعجائز يعودون إلى بيوت وحارات غير موجودة إلا في الذاكرة، صورا من جمال يقاوم الاختزال والمحو بالحركة، بالعودة إلى أصالة مختارة وحضور شخصي وهوية لا تقبل أن تشوّه، وذاكرة قادرة على اختزان التراث واختزال الموت: فعل مقاومة إذلال الذات والتشظّي والشعور بأن سرعة الحدث وكثافته أقوى من الحضور فيه، من الوجود فيه بكل قوة وبمنتهى النعومة، تماما كما تفعل القصائد التي خرجت من السجون، إذ تؤكد أن لحظات الانكسار أصدق من الصواريخ ومن الخطابات السياسية وأكثر منها قدرة على البقاء.
يعيش الجمال اليوم امتحانا صعبا. في عصر الفلاتر السريع، وعمليات التجميل وضبط المقاسات والأشكال المصقولة، والبحث عن الشباب الدائم، والمنصات التي تستهلك المحتوى بسرعة الضوء، يطرح السؤال: هل الجمال الذي نراه حقيقي أم مجرد إيقاع مبرمج لصورة نموذجية غدت غاية في ذاتها؟
وجد بحث بعنوان "الجمال البنيوي-Structural Beauty" أن هناك بنية جمالية يمكن قياسها في الصور، أي إن الجمال ليس شخصيا خالصا، بل له أبعاد مشتركة بين الثقافات. ومع ذلك، عندما يصمم الوجه والبيت واللحظة الملتقطة لتلائم شبكة الجمال الرقمية، تشعر أن الجمال أضحى قيمة تبادلية، تناسب منظومة السوق والإعلام، ولم تعد قيمة ذاتية حرة، ربما هنا يبدأ الجمال بخسارة ذاته.
في هذا السياق يمكن القول إن قدرة الجمال على مواجهة العالم تقوم على استعادة علاقته بالإنسان، لا كمنتج جاهز يشترى، بل كخبرة تحيا. حينما يصمم الشخص صورته أو بيته أو لحظته بصيغة إنسانية، بكلام آخر، عندما يقرر الإنسان أن يحيا بطريقة فردية خاصة تناسب بيئته وقيمه الخاصة وثقافته وتطلعاته المستقبلية، فإنه يقف ضد آلة التشويه والتجهيز المسبق.
في هذه اللحظة يصبح تذوق الجمال وعيشه فعلا يوميا: اختيار اللون، المشهد، واللحظة المعبرة عن الهوية هو تمرد صغير، خبرة إنسانية أصيلة بلغة جديدة.
إذن، يبدو غير بعيد إمكانية إعادة الاستجابة للجمال كقيمة إنسانية، وذلك حين يولد من حضور حقيقي وعاطفة ورؤية، أي حين تعيد المجتمعات تعريفه وتذوقه بمنأى عن العرض والطلب، إذ تكون وقتها تبني مقاومتها لنمطية الصورة واستلاب القيمة وقولبة النموذج كي يناسب الجميع، تبني مقاومتها للمعيار والصنمية وتستعيد فطرة الدهشة، إذ ترتب الأجزاء الصغيرة للحالة الإنسانية فرديا وجماعيا بطريقة لا يمكن تغييرها إلا إلى الأسوأ، بما يوقظ الوعي في مواجهة التزييف. فما علاقة ذلك بالحاجة النفسية المعاصرة؟
منذ زمن، تواضع المتكلمون في الجمال على أنه تخطى مسألة الذوق الفردي، إذ فيه موقف أخلاقي موجه. الجمال الحقيقي يرفض الظلم، ويحمل في بواطنه التوازن والعدل والرحمة، وتراه في أدق التفاصيل يشعّ بهذه المعاني، وترى النفس الإنسانية تستجيب لحضوره، وإن تخفّى وإن تبدّى بما لا يشبه الظاهر الحسي للصورة المرئية.
تظهر البحوث أن تجربة الجمال، سواء في الفن أو الطبيعة أو الموسيقى، تحفز ما يعرف بالانسجام المعرفي والعاطفي في الدماغ، ما يمكن أن يخفف التوتر ويعزز الشعور بالمعنى.
وقد أظهرت الورقة السابق ذكرها كيف يشترك البشر في رد فعل إيجابي على مشاهد تحوي تناظرات تحتية وانسجاما هيكليا، ما يدل على أن الجمال حاجة نفسية راسخة ومشتركة بين البشر. هنا يكون الجمال مسهما جوهريا في بناء ضمير إنساني موحد، يشترك فيه الإنسان في تذوق معنى الاختلاف، ويراه جميلا، ولعل ما يراه الجميع جميلا يتفقون على حمايته.
في هذا السياق، الجمال يواجه الشعور بالتجزئة والفراغ الذي قد يخلفه العالم المعاصر. عندما تشاهد مشهدا جميلا، فإنك تعيد ربط نفسك بشيء أكبر منك، بشيء مستمر. وهذا فعل نجاة. تخيل معي، ماذا سيكون شكل حياة يتذوق أبناؤها جمالها فعل وجود مشترك قيمي وروحي كما يتقاسمون الهواء؟
لم تغب المرأة، كجنس من بني البشر، عن مناقشات قضايا الجمال. في كتب الجماليات السياسية، يقال إن معايير الجمال في مجتمعاتنا تحمل رسائل عن السلطة، وعن النوع الاجتماعي، وعن الانتماء. وقد يكون من أبرز الطرق التي يقول بها الجمال اليوم إنه قادر على مواجهة العالم، ما يكمن في إعادة تعريفه من منظور تختار فيه المرأة كيف تعرف جمالها، وتقاوم التصنيفات.
بين التسليع والإعلان والجسد المضغوط، هناك مساحة للمرأة أن تقول:
"جميلة أنا على طريقتي. ورغم القوالب والأجساد المصقولة، هناك خفة في الحكم، بها أنا جميلة. وهناك تواضع بهي، وهناك استقلال متواضع، وإشعاع للحضور، وحكمة باطنية، وتجربة عبرتني وعبرتها، علمتني من أكون، وترفّع عن الخوض في التفاهة والسطحية.
وهناك ألم أداويه، وحنان أمارسه، وعطاء من نبع داخلي يريد أن يرى من تعلق به سعيدا. هناك أنا، حاضرة في الآن وهنا وإلى الأبد، لأن أثري في العالم كأثر الفراشة. هناك حرب أخوضها كل يوم بشجاعة محارب، وحكمة كاهن، وضحكة طفل. وهذا يكفي العالم كي ينير".
قد نفقد العلاقة الأصيلة بالجمال إذا استمر العالم في جعل الصورة أسرع من المعنى. الأبحاث الحديثة التي تربط الفن بالاستدامة، مثل الورقة التي طرحت "إطار عمل للفن والاستدامة-Framework for Art and Sustainability" في أكتوبر/تشرين الأول 2025، تشير إلى أن الجمال يمكن أن يكون عامل تغيير في النظامين البيئي والاجتماعي ككل.
كيف؟ علينا أن نستثمره: في التعليم، وفي الساحات العامة، وأن نطرح أسئلة عن قيمة الأشياء والأحداث وأثرها. لماذا؟ لأن الجمال يربك القسوة، قد لا توقف لوحة حربا، لكنها تمنع القلب من أن يعتادها، وقد لا تهدم قصيدة نظاما سياسيا، لكنها تزرع الشك في العقول لترى العالم بعين مختلفة. الجمال لا يغير الواقع البشع، بل يغيرنا نحن، وعندما نتغير يمكننا أن نغير محيطنا، وربما العالم.
ففي واقع تهيمن فيه الصواريخ الفرط صوتية، يعلمنا تذوق الجمال التمهل، ويدربنا على الإصغاء إلى التفاصيل والإحساس بالآخر.
القدرة الفعالة على مواجهة العدم والتشظي والقمع والسوق هي أن تختار تذوق الجمال وتكريس حضوره الآني في حياتك: بالرحمة، بالموقف الحر من الضجيج والاصطفاف واللامبالاة، بأن تحكم بنفسك الخلاقة العارفة على ما تراه، لا أن توجهك الآلة وتتحكم في مسارك ومصيرك، والخطط الكونية لمصفوفة يراد لها أن تتشابه حد التلاشي، ولإنسانها أن لا يلحظ ذاته وسط الجموع أو يتلمس قلبه في عالم عاقل حد الجنون.
وإذا سألنا: كيف نواجه العالم اليوم؟ فإن الجواب قد يكون كما قال كانط: حكم الذوق لا يوجه بالقواعد، لكن يشعر به الإنسان بنفسه.
ربما لا ينقذ الجمال العالم كما حلم دوستويفسكي، لكنه بالتأكيد يمنع العالم من أن يفقد معناه الحقيقي، أليس ذلك خلاصا؟
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة