تنهل رواية "فْراري" للسورية ريم بدر الدين بزال من الذاكرة الشعبية، مستعيدة أجواء القرية والمدينة في نهايات الوجود العثماني في بلاد الشام، حيث تروي عبر مسار حياة بطلها الرئيس "حسين" أحداثًا متشابكة، تعكس معاناة الناس الحياتية، وما يلازمها من فقر وخوف وقهر وانكسار وتشرد، في حين تحضر الشخصيات النسائية والرجالية بوصفها مرايا للمرحلة، ومفاتيح لفهم البنية الاجتماعية آنذاك.
تناولت الرواية العديد من الموضوعات، من أهمها: القهر الاجتماعي والاقتصادي الذي مارسه الحكم العثماني في أواخر أيامه، ومعاناة المرأة وحضورها كرمز للصمود أو الانكسار، وأثر العلاقات الإنسانية في تشكّل مسارات الناس ومصائرهم، وجدلية الحرية والخوف والهرب من السلطة، بالإضافة إلى الكرم والشهامة ومقاومة المحتل والزواج القسري والخيانة الزوجية وجرائم الشرف والعمالة والظلم وغيرها الكثير.
ويُلاحظ أن الأحداث في رواية "فْراري" بُنيت على مبدأ التتابع السببي؛ فقرار صغير لحسين قاد إلى سلسلة من المآزق المتلاحقة، وعلاقاته مع شخصيات مختلفة تجرّ بعضها بعضًا كما أحجار الدومينو، ليظهر كيف أن حياة الفرد محكومة بسلسلة مترابطة من الأفعال وردود الفعل.
قدّمت الرواية صورة قاتمة للجنود العثمانيين زمن الحرب بوصفهم أدوات قمع وبطش وقتل، مارسوا الظلم على الناس وأفقروهم بالضرائب والاستيلاء على أقواتهم ومحاصيلهم، وكانت القضية الأبرز هي تجنيد الشباب للقتال إلى جانب العثمانيين في حروبهم، مما اضطر العديد من الشباب إلى الهرب والتخفي، وبقوا مطاردين عرضة لحملات مداهمة وتفتيش الجنود.
يظهر حسين منذ الصفحات الأولى شخصية متعبة، مثقلة بالذنب والذاكرة، محاصرًا بالخوف من الضباع والذئاب في الغابة، كما هو محاصر بخوف أكبر من السلطة العثمانية والواقع القاسي. بداية مساره كانت مع حدث مفصلي؛ قتله لجندي عثماني حاول الاعتداء على شرف فتاة يتيمة "زبيدة". قلبت هذه الحادثة حياته رأسًا على عقب، وجعلت منه "فْراري"، أي فارًّا من وجه العدالة العثمانية، لكنّه في العمق كان هاربًا من ظلم اجتماعي وسياسي أثقل كاهله.
منذ ذلك الحدث الذي طرأ مدفوعًا بالنخوة والدفاع عن الشرف، أدرك حسين أنه أدخل نفسه في طريق اللاعودة، فبدأ مرحلة التيه، متنقلًا بين القرى والغابات، يحمل بارودته قليلة الطلقات وزوادته البسيطة، في رحلة تشبه المطاردة الأبدية. لم يكن حسين مجرمًا أو بطلًا، ولكنه إنسان عادي وقع في فخ القدر، تتقاذفه الحاجة والفقر والظلم، ليصبح رمزًا لجيل كامل من الفلاحين المهمّشين المقهورين.
تكشف علاقات حسين النسائية عن شخصيته المضطربة والمتناقضة، وعن فراغ داخلي يسعى لملئه بالحب والجسد؛ فسلمى، زوجته الأولى، تمثل الحنان والأمان، وفي الوقت ذاته مرآة لعجزه عن الالتزام والاستقرار، إذ يتركها في ظروف قاسية، ليبدأ رحلة فراره، وبقيت سلمى رمزًا للجذور التي هجرها. أما زبيدة، فعلاقتها به مرتبكة، فهي شاهدة على جريمته الأولى ضد الجندي الذي حاول الاعتداء عليها، وانكسرت حياتها بسبب ما رآه الناس ارتباطًا بينها وبينه، أو بينها وبين الجندي، وتمثل زبيدة رمز المرأة التي تدفع ثمنًا لا ذنب لها فيه. ومع مريم المتزوجة تجاوز حدود العلاقة العابرة، فكانت علاقة محمّلة بالحب المحرّم والخطيئة، وارتبطت بإنجاب طفل. وتتجلى مع مريم مأساوية شخصية حسين في بحثه عن دفء لا يجده في الاستقرار الشرعي، بل في مغامرة محرمة.
ورابع نسوة حسين هي عائشة؛ زوجته الثانية، ابنة أبو عمر، الرجل الشهم والمعادي للعثمانيين، والتي حملت إرث أبيها الأخلاقي والرمزي. ارتبط بها أملًا بحياة جديدة، واستقرار وخلاص من الهرب والتخفي. لكنّ أمله بقي حلماً بعيد المنال. أنجبت عائشة، ثم فقدت أباها غدرًا على يد خالد، وتعرّضت لمحاولة اغتصاب وقتل من الخائن نفسه، وماتت قهرًا وحزنًا وكمدًا على أبيها، في صورة درامية مؤثرة تُلخص مصير المرأة في الرواية؛ أن تدفع الثمن الأكبر لخيانات الرجال وصراعاتهم.
يمثل حسين الشخصية المرتبكة، أو الشخصية العادية المضطربة التي تفتقر للثقافة والوعي والمرجعية الفكرية أو الدينية، وكانت مسيرته أقرب إلى رحلة سقوط وانكسار متواصل، تتخللها ومضات شجاعة ونخوة، لكنها تنطفئ أمام ثقل الظروف.
مثلت نساؤه محطات كشفت ضعفه الإنساني وتوقه الدائم إلى الاحتواء، يطلب القرب والدفء لكنه يعجز عن الحماية والاستمرار، وتعكس مواقفه مع السلطة والطبيعة صراعه الوجودي. إنه شخصية تجسد الإنسان البسيط زمن التسلط العثماني؛ محاصرًا بين الجوع والخوف، بين الشرف والخطيئة، وبين الرغبة في النجاة والعجز عن الفكاك من قدره. يتنقل في حياته بين التمسك بالأمل في الحرية واليأس من الواقع، مما يجعله شخصية مأزومة، تتأرجح بين الشجاعة والضعف، بين النخوة والأنانية.
في رواية "فْراري" تحضر المرأة بوصفها أكثر الشخصيات انكسارًا وأكثرها تضحية في آن واحد؛ فالنساء في القرى يعشن في دائرة مزدوجة من القهر؛ قهر السلطة التي تتسلط على الرجال والنساء معًا، وقهر المجتمع الذي يحمّل المرأة وزر الحفاظ على الشرف مهما كلف الأمر. فنجد الأم التي تتحمل غياب أبنائها أو موتهم، والزوجة التي تصبر على خيانة زوجها أو جفائه، والفتاة التي يُراد لها أن تكون وسيلة انتقام أو تسوية بين الرجال. وفي قلب هذه المعاناة، تُختزل المرأة في كونها رمزًا للشرف، فإذا انتهك شرفها تحولت إلى ضحية مطاردة، أحيانًا بالقتل وأحيانًا بالنبذ الاجتماعي.
ومع ذلك، فإن تضحيات النساء تتجاوز حدود المعاناة الفردية؛ فهنّ اللواتي ينهضن بمهام البيت والحقل، ويكافحن لحماية أسرهن من العار أو الانهيار؛ فشخصية سلمى مثلًا، تحمل معاناة الفقد والوحدة، لكنها تظل متماسكة لتمنح ابنها وبيتها معنى الاستمرار. وكذلك عائشة انتصرت لحبها وتزوجت حسين مع أنها كانت تشعر أن له زوجة قبلها، ولما حتمت الظروف، استقبلت ضرتها وشاركتها البيت وبعد الزوج. أما زبيدة فدفعت ثمن خطأ لم ترتكبه، إذ وُصمت بالعار بسبب شائعة، لكنها لم تستطع أن تصمد أمام نظرات وهمسات الإدانة من محيطها، ففضلت الموت انتحارًا؛ لتغدو مثالًا على المرأة التي تتحمل ظلمًا مضاعفًا.
هكذا تكشف الرواية أن المرأة، رغم هشاشتها الظاهرية، هي صمام الأمان الذي يحفظ العائلة والمجتمع من الانهيار، وأن انكساراتها ليست ضعفًا بقدر ما هي مرآة لعمق الظلم الذي يثقل كاهلها، ولعظمة التضحية التي تقدمها في سبيل الآخرين.
لا يختار الكاتب شخصياته عبثًا أو لمجرد الحشو وملء الفراغ وسرد الحكايات، فلكل شخصية دور تؤديه، ودلالة ترمز إليها. والشخصية في الرواية لا تمثل نفسها فقط، وإنما تمثل جيلها وأشباهها. وقد حفلت رواية "فْراري" بعشرات الشخصيات التي لعبت أدوارًا مهمة ومفصلية، ومن هذه الشخصيات:
وبعد؛ فإنّ رواية "فْراري" تضعنا أمام مرآة لزمن غابر لكنه حاضر في وجداننا، حيث القهر والظلم والفقر، عندما يكون الإنسان العادي هو بطل الصراع. إنّها رواية تعيد للذاكرة لحظة منسية، وتفتح أسئلة عن الحرية والهوية والقدرة على النجاة.
وتكمن أهمية هذه الرواية في كونها شهادة أدبية على حقبة تاريخية؛ إنّها نوع من التوثيق الإنساني والفني، ينقل للأجيال تفاصيل الحياة اليومية، ويضيء على مساحات الألم والصراع التي شكّلت وجدان الناس، لتغدو الرواية بذلك وسيلة لحفظ الذاكرة الجمعية.
يُشار إلى أنّ ريم بدر الدين بزال ناشطة ثقافية سورية، تحمل شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية. عملت في التدريس والترجمة والصحافة. صدر لها: رواية "وطن في حقيبة القلب" 2012. ورواية "ذاكرة ميت" 2016. "في رحاب الرواية"، قراءات نقدية، 2018. وصدرت رواية "فْراري" حديثًا في عمّان، عن الآن ناشرون، في 184 صفحة.