في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على الرابط أعلاه للمشاهدة على الموقع الرسمي
بمجرد صدور طبعة ثانية محدودة منها في شهر أبريل/نيسان من هذا العام، سارعتُ لإدراج رواية "مملكة الألم" لباولو فاليزيو في ترشيحاتي لمكتبة (لغة – العالم) التي تعكف المؤسسة الأهم في العالم لتعزيز اللغة الإيطالية "دانتي أليغييري" على إنشائها بمقرها في روما، حيث ستكون مخصصة بشكل كامل للكتب الإيطالية ذات الصبغة العالمية. وكعضو في اللجنة الاستشارية للمؤسسة، بدعوة من أمينها العام مؤرخ الفن أليساندرو مازي، لم يكن من الممكن أن تسقط جوهرة فنية كـ"مملكة الألم" من قائمتي.
والأمر يتعلق برواية شعرية فريدة صدرت في طبعتها الأولى عام 1983 عن دار سبيرالي بميلانو، وكانت الرواية الثانية لفاليزيو (1939) بعد "مشفى منهاتن" (1978)، حيث سبقها عدد من الأعمال الشعرية والنقدية للكاتب الذي يُعدّ اليوم واحدا من بين أبرز أدباء إيطاليا المعاصرين بعد العشرات من الإصدارات ومسيرة مهنيّة حافلة أمضاها في تدريس الأدب الإيطالي بين جامعات هارفارد (1968 ـ 1973) ونيويورك (1973 ـ 1975) وييل (1975 ـ 2004) وكولومبيا (2004 ـ 2013) حيث يحمل إلى الآن لقب أستاذ فخري في جامعة كولومبيا، ويدير مركز دراسات "CSSV" بمدينة بولونيا الإيطالية كما يدير مجلة "Italian Poetry Review" التي تصدر باللغتين الإيطالية والإنجليزية .
ولعل اللافت في الطبعة الثانية من "مملكة الألم" (منشورات ديا فوريا، 2024) وهي عمل يقع في 260 صفحة من القطع المتوسط أنها تضمّنت تنقيحا وحيدا في صفحة 24 أشار له الكاتب في تنويه استهلّ به الطبعة الجديدة، وتمثل في استبدال مقطع من خطاب يوم السقيفة لأبي بكر الصدّيق (رضي الله عنه): "نحن عِترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيضته التي فقئت عنه…" بنص مستلهم من آيات من سورة الصافات من القرآن الكريم. ليكون هذا هو الاختلاف الوحيد بين الطبعتين الأولى والثانية من الرواية.
وبالرغم من أن اللطائف ذات الصبغة الأنثروبولوجية للعمل تتوزع بشكل أساسي بين الثقافتين الإيطالية والأميركية فإن الرواية حوت في طياتها انفتاحات مهمة على الثقافة العربية والإسلامية.
ولا نعثر في رواية فاليزيو -كما يلاحظ الناقد الإيطالي فابيانو غريتي الذي وضع تصدير العمل- على أي "روحانية أو مكون ديني بشكل واضح وملموس" سوى الفصل الأول والختامي من الرواية وكأنهما قوسان تُفتح عليهما الرواية بأكملها ثم تُغلق.
ليعمد فاليزيو إلى الإغراق في التفاصيل الدنيوية الدقيقة لوصف حيوات شخصيات العمل الثلاث الذين لا يربط بينهم الكثير ولا نعرف عنهم سوى مشاعر هاربة وصور خاطفة ولقاءات مقتضبة.
كل ذلك ضمن هيكيلية أسلوبية معقدة تطبع أسلوب الحركة الطلائعية في الأدب والتي ميزت سنوات الثمانينيات. والمفارقة هي أن الرواية بأسرها كتبها فاليزيو -كما يذكر هو نفسه في كلمة الغلاف- "كرد على الأدب "الطلائعي" لتلك السنوات، وهي نوعية من الأدب (…) لم أشعر بأي رغبة في الاصطفاف معها"، يقول الكاتب.
اليوم التقينا الأديب الإيطالي باولو فاليزيو لمناقشة الرؤية الاستشرافية التي حملتها روايته، وكذا المتغيرات الثقافية التي نعيشها في عالمنا اليوم على ضوء اللحظة السياسية الحاسمة التي يحياها العالم لاسيما في غزة وانعكاساتها على المشهد الأدبي العالمي.
لقد كانت تجربة غريبة ومثيرة. فقد كان الاتفاق مع الناشر (وهو صاحب دار نشر تجريبية صغيرة لكن شجاعة) يقضي بإعادة إنتاج الرواية كما صدرت تماما، ووافقتُ على ذلك.
لكنني أخذت راحتي في إدراج سلسلة من التعديلات الأسلوبية الصغيرة، والتي أدّت في رأيي إلى تحديث أسلوب النص قليلا دون إحداث تغيير جوهري عليه بأي شكل من الأشكال؛ وقد عملت على ذلك لفترة طويلة. ولكن لدهشتي، لم يتعامل الناشر بمرونة مع هذه التغييرات، ورفَضها، لأنه يريد الرواية تماما كما نُشرت أول مرة (طبعا باستثناء الأخطاء المطبعية).
بعد لحظة الارتباك الأولية، اعتبرت أن فكرة الإيغال في الوفاء هذه هي في نهاية المطاف جزء من الطبيعة التجريبية للمشروع بأكمله، وشرعتُ في العمل مجددا، بمحو جميع التعديلات التي اشتغلتُ عليها بعناية وبصبر.
وفي النهاية، أثبتت تجربة "الترميم" الشامل هذه (كما قلت) أنها مثيرة؛ بمعنى أن النص، الذي عاود الظهور سليمًا منذ عام 1983، كان بمثابة إعادة اكتشاف حقيقية (وغريبة مثل كل عمليات إعادة الاكتشاف): أي أنه ظهر لي كنص "جديد" فعلا.
النص الشعري لا يمكن أن يحل محل النص الديني، ولكنني في المقابل لا أقصد الإيحاء بوجود نوع من التنافس بين هذين النوعين من النصوص؛ فالأمر يتعلق بتجارب مستقلة، ولكنها مع ذلك يمكن أن تتعاون مع بعضها بطرق معينة
في الواقع "التجليات الروحية المكبوتة" تتخلل كافة أرجاء الرواية. فالأمر لا يتعلق بالبحث عن خيط مشترك، بل بالأحرى (كما كتبتُ سابقا، وأكتب مجددا) إدراك "أن المقدس يظهر حصرا في عالمنا اليوم بشكل مجتزأ وعلى هيئة مُزرية"؛ وفي هذا المقام، استطردت قائلا إن مملكة الألم "تصف حالة من البؤس والجمال لا ينفصلان عن بعضهما لهذا الحضور المقدس (في حالة من النبل اليائس والغريب)".
وأنا أتفق مع روندوني في أن النص الشعري لا يمكن أن يحل محل النص الديني، ولكنني في المقابل لا أقصد الإيحاء بوجود نوع من التنافس بين هذين النوعين من النصوص؛ فالأمر يتعلق بتجارب مستقلة، ولكنها مع ذلك يمكن أن تتعاون مع بعضها بطرق معينة.
أنا ممتن لكِ لأنك عرفتني على تلك الرواية التجريبية الرائعة "نجمة" لكاتب ياسين. ولاحظي أنني للمرة الثانية أستخدم مصطلح "تجريبي"، الذي أفضله على مصطلح "الطليعي" لأن الأخير معرّضٌ أيضًا لتقلبات الموضة والغموض الزمني.
لقد قرأت وأعجبت بل وأحببت العديد من الأعمال التي تندرج ضمن ما يسمى بالأدب الطلائعي شعرا ونثرا. لكنني لم أشعر برغبة في الاصطفاف معه، وذلك لسببين أساسيين لم أفصح عنهما سابقا وسأكشف عن هذا للمرة الأولى هنا:
هذا يعود بنا إلى السؤال السابق وسأحدد كلامي هنا لأنه ربما لم يكن واضحا بما فيه الكفاية في إجابتي السابقة: استبعاد العنصر المقدس يقيّد العمل الأدبي من وجهة نظر شعرية وأدبية (وبالتالي فإن اعتراضي على هذا الاستبعاد ليس عقائديا أو لاهوتيا)؛ بل أقول إن استبعاد المقدس يقيّد ويقوّض العمل الأدبي لأنه يُضحّي تحديدا بالكثير من الزخم الرمزي والمجازي الذي تتضمنه أي سردية (في النثر كانت أم في الشعر).
أما بالعودة إلى "نجمة"، فالمذهل هو الفرق بين الأسلوبين التجريبيين لنجمة ومملكة الألم. فنثر ياسين ثري جدًا (يكاد يكون باذخا)، يغمره جوّ من الاستعارات والصور كما لو كنا حيال نهر متدفق؛ عكس حالتي الأكثر تواضعًا، كما لاحظتِ من خلال استخدامكِ مفردة "تجفيف" النص الذي عمدتُ إليه في الرواية.
وفي هذا الصدد، أنا أود أن أتوقف أكثر أمام فكرة الكتابة التجريبية. عن نفسي أنا أؤمن (كما يقول الشاعر العظيم غوتفريد بن في مكان ما) بـ"النثر المطلق" بالمعنى الأصلي للكلمة اللاتينية "مطلق" (absoluta)، أي متحرر من كل قيد: نثر متحرر من قيود الاستمرارية السردية، من التفكير المنهجي المجرد، من الحدود الصارمة بين ما يسمى نثرا وما يسمى شعرا.
ومملكة الألم بهذا المعنى هي رواية شعرية، أي رواية تتحول فيها الجملة السردية أحيانا إلى بيت شعري يطفو على هواء الصفحة، وهي بذلك ليست "قصيدة ـ رواية" أو "قصيدة روائية"
ذلك الإهداء كان مجرد تعويض صغير ومتأخر لأبي. والدي (الذي لم أره قط في السنوات الخمس الأولى من حياتي إلى غاية عودته من الأسر) لم يكن يحب الحديث عن تلك السنوات، وهذا أمر مفهوم، لكن ما ندمت عليه فيما بعد هو عدم إصراري بكل محبة على أن يخبرني بشيء عن تلك السنوات، وكانت النتيجة هي أنني لا أعرف ما يكفي عنه، وعن جوّانيته الأ ....