يتزايد استخدام الذكاء الاصطناعي بسرعة هائلة، لكنه في ذات الوقت يعتبر تقنية متعطشة للمياه، إذ يحتاج إليها في عمليات التبريد وتوليد كميات هائلة من الكهرباء.
ووفقاً للأمم المتحدة، يعاني نصف سكان العالم من ندرة المياه، ومن المتوقع أن تتفاقم هذه المشكلة بسبب الطلب المتزايد على الماء وتغيرات المناخ. فهل سيزيد التوسع السريع للذكاء الاصطناعي، من سوء وضع إمدادات المياه أيضاً؟
يقول سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن أي آي، إن كل استفسار على منصة تشات جي بي تي يستهلك خُمس ملعقة صغيرة من الماء.
ومع ذلك، خلصت دراسة أجراها أكاديميون أمريكيون في كاليفورنيا وتكساس إلى أن 10-50 إجابة من النموذج الثالث من تشات جي بي تي GPT-3، تستهلك نصف لتر من الماء - أي ما بين ملعقتين صغيرتين وعشر ملاعق صغيرة من الماء لكل إجابة.
وتختلف تقديرات كمية المياه المستخدمة تبعاً لعوامل مثل نوع الاستعلام (السؤال المطروح)، ومدة الاستجابة له، ومكان معالجة الاستجابة، والعوامل المُراعاة لإعطاء الإجابة.
ويشمل تقدير الأكاديميين الأمريكيين - 500 مليلتر لحوالي 10-50 إجابة - أيضاً المياه المستخدمة لتوليد الطاقة، مثل البخار الذي يُشغّل توربينات محطات الطاقة التي تعمل بالفحم أو الغاز أو الطاقة النووية.
وقد لا يشمل الرقم الذي قدمه ألتمان هذه الكمية الإضافية المستخدمة من الماء، إذ أنه لم يٌقدّم لبي بي سي أي تفاصيل حول الحسابات التي استخدمتها أوبن أي آي لمعرفة كمية الماء المستخدم.
ومع ذلك، فإن استخدام المياه يتزايد، إذ تقول شركة أوبن أي آي إن منصة تشات جي بي تي تُجيب على مليار استفسار يومياً - وهو مجرد واحد من بين العديد من روبوتات الذكاء الاصطناعي التي يستخدمها سكان الأرض.
وتقدر الدراسة الأمريكية أنه بحلول عام 2027، سيستخدم قطاع الذكاء الاصطناعي سنوياً ما بين أربعة إلى ستة أضعاف كمية المياه التي تستهلكها دولة الدنمارك بأكملها.
ويقول أحد مؤلفي الدراسة، البروفيسور شاولي رين من جامعة كاليفورنيا، ريفرسايد، إنه "كلما زاد استخدامنا للذكاء الاصطناعي، زاد استهلاكنا للمياه".
تتم معالجة الأنشطة عبر الإنترنت، من رسائل البريد الإلكتروني والبث المباشر إلى إنشاء المقالات أو صناعة مقاطع الفيديو، بواسطة رفوف ضخمة من خوادم الكمبيوتر في منشآت ضخمة تُسمى مراكز البيانات - بعضها يصل حجمه إلى حجم عدة ملاعب كرة قدم.
وترتفع درجة حرارة هذه الخوادم مع سريان الكهرباء عبر الحواسيب.
ويُعد الماء - الذي عادةً ما يكون ماءً عذباً نظيفاً - عنصراً أساسياً في أنظمة التبريد المستخدمة لتبريد تلك الخوادم والحواسيب، وعلى الرغم من أن طرق التبريد بالماء قد تتنوع، إلاّ أن أغلبها قادر على تبخير ما يصل إلى 80 في المئة من الماء المستخدم وإطلاقه في الغلاف الجوي.
وتتطلب مهام الذكاء الاصطناعي قوة حوسبة أكبر بكثير من المهام التقليدية عبر الإنترنت، مثل التسوق أو البحث على الإنترنت - وخاصةً للأنشطة المعقدة مثل إنشاء الصور أو مقاطع الفيديو. لذا، فإنها تستهلك المزيد من الكهرباء.
ويصعب تحديد الفرق كمياً، لكن تقديراً لوكالة الطاقة الدولية (IEA) يشير إلى أن سؤالاً او استفساراً واحداً على منصة تشات جي بي تي، يستهلك ما يقرب من عشرة أضعاف كمية الكهرباء التي يستهلكها سؤال او استفسار بحثي واحد على غوغل.
وزيادة الكهرباء تعني المزيد من الحرارة - لذا هناك حاجة إلى المزيد من التبريد.
ولا تُقدم شركات تقنيات الذكاء الاصطناعي الكبرى أرقاماً عن استخدام المياه في أنشطتها الخاصة بالذكاء الاصطناعي، إلا أن إجمالي استخدامها للمياه يرتفع تدريجياً.
وشهدت كل من غوغل وميتا ومايكروسوفت - وهي شركات مستثمرة رئيسية ومساهمة في شركة أوبن أي آي - زيادات كبيرة في استخدام المياه منذ عام 2020، وفقاً لتقاريرها البيئية.
وقد تضاعف استخدام غوغل للمياه تقريباً خلال تلك الفترة، أما خدمات أمازون ويب (AWS) فلم تُقدم أي أرقام.
ومع توقع نمو الطلب على الذكاء الاصطناعي، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يتضاعف استخدام مراكز البيانات للمياه بحلول عام 2030، بما في ذلك استخدام المياه في توليد الطاقة وتصنيع رقائق الكمبيوتر.
وتقول غوغل إن مراكز بياناتها سحبت 37 مليار لتر من المياه من مصادرها في عام 2024، "استُهلك" منها 29 مليار لتر - وهو ما يُشير إلى حد كبير إلى تبخر تلك المياه.
لكن، هل هذا كثير؟ الإجابة تعتمد على الشيء الذي ما تُقارن به.
فهذه الكمية ستوفر الحد الأدنى اليومي من المياه للبشر، الموصى به من الأمم المتحدة، وهو 50 لتراً يومياً، لـ 1.6 مليون شخص لمدة عام كامل – أو بحسب غوغل، يمكن استخدامها لريّ 51 ملعب غولف في جنوب غرب الولايات المتحدة لمدة عام.
تصدرت المعارضة المحلية لوجود مراكز البيانات عناوين الصحف في السنوات الأخيرة في بعض المناطق المعرضة للجفاف في العالم، بما في ذلك أوروبا وأمريكا اللاتينية وولايات أمريكية مثل أريزونا.
وفي إسبانيا، شُكّلت مجموعة بيئية تُدعى "سحابتك تجفف نهري" لمكافحة توسع مراكز البيانات.
وفي تشيلي وأوروغواي، المتضررتين من الجفاف الشديد، أوقفت غوغل خططها لبناء مراكز بيانات وعدلت بعضها بعد احتجاجات حول صعوبات الوصول إلى المياه.
ويقول أبيجيت دوبي، الرئيس التنفيذي لشركة إن تي تي داتا NTT Data، التي تُدير أكثر من 150 مركز بيانات حول العالم، إن هناك "اهتماماً متزايداً" ببناء مراكز في المناطق الحارة والجافة.
ويوضح أن عوامل مثل توافر الأراضي، والبنية التحتية للطاقة، والطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بالإضافة إلى اللوائح التنظيمية المواتية، يمكن أن تجعل هذه المناطق جذابة.
ويشير الخبراء أيضاً إلى أن الرطوبة تزيد من التآكل، ما يعني الحاجة إلى طاقة أكبر للتبريد، وهو سبب يزيد من فوائد بناء مراكز البيانات في المناطق الجافة.
وتؤكد كل من غوغل ومايكروسوفت وميتا في تقاريرها البيئية أنها تستخدم المياه في المناطق الجافة أيضاً.
ووفقًا لأحدث التقارير البيئية للشركات، تُشير غوغل إلى أن 14 في المئة من المياه التي تسحبها تأتي من مناطق معرضة بشكل كبير لخطر ندرة المياه، و14 في المئة أخرى من مناطق نسبة الخطر فيها "متوسطة"، بينما تُشير مايكروسوفت إلى أنها تسحب 46 في المئة من مياهها من مناطق "تعاني من إجهاد مائي"، وتُشير ميتا إلى أنها تسحب 26 في المئة من مياهها من مناطق ذات إجهاد مائي "عالي" أو "عالي جداً". بينما لم تكشف أمازون ويب أي أرقام.
يُمكن استخدام أنظمة التبريد الجاف أو الهوائي، ولكنها عادةً ما تستهلك كهرباءً أكثر من الأنظمة القائمة على الماء، كما يقول البروفيسور رين.
وتُشير مايكروسوفت وميتا وأمازون إلى أنها تُطور أنظمة "حلقة مغلقة" تعمل على تدوير الماء - أو أي سائل آخر - دون تبخيره أو استبداله.
ويعتقد دوبي أنه من المُرجح أن تكون هذه الأنظمة مطلوبة على نطاق واسع في المناطق الجافة في المستقبل، لكنه يُشير إلى أن النظام لا يزال في مرحلة "مبكرة جدًا" على اعتماده.
وهناك مشاريع جارية أو تمّ التخطيط لها لاستخدام الحرارة من مراكز البيانات في المنازل في دول مثل ألمانيا وفنلندا والدنمارك.
ويقول الخبراء إن الشركات تُفضل عادةً استخدام المياه النظيفة والعذبة - مثل تلك المستخدمة للشرب - لأنها تُقلل من خطر نمو البكتيريا والانسدادات والتآكل.
ومع ذلك، تعتمد بعض الشركات على مصادر مياه غير صالحة للشرب مثل مياه البحر أو مياه الصرف الصناعي للتبريد.
يُستخدم الذكاء الاصطناعي للمساعدة في تقليل الضغط على كوكب الأرض، على سبيل المثال للمساعدة في العثور على تسربات غاز الميثان المُسبب للاحتباس الحراري، أو لإعادة توجيه حركة المرور عبر طرق محددة لتوفير الوقود.
يقول توماس دافين، المدير العالمي لمكتب الابتكار في منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، إن الذكاء الاصطناعي يُمكن أن يُحدث "تغييراً جذرياً" للأطفال حول العالم في مجالات التعليم والصحة، وربما تغير المناخ.
لكنه أعرب عن رغبته في رؤية الشركات تتسابق نحو "الكفاءة والشفافية"، بدلاً من مجرد "البحث عن النموذج الأقوى والأكثر تقدماً"، داعياً الشركات إلى جعل نماذجها وبرامجها مفتوحة المصدر، وإتاحتها للجميع لاستخدامها وتكييفها.
ويرى دافين أن هذا من شأنه أن يُقلل من الحاجة إلى عملية تدريب البرامج المكثفة - التي تزودها بكميات ضخمة من البيانات لتقوم بمعالجتها وبناء ردودها بناءً عليها - والتي تتطلب الطاقة والماء.
ومع ذلك، تقول لورينا جاومي-بالاسي، الباحثة المستقلة التي قدمت استشارات للعديد من الحكومات الأوروبية وهيئات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وتدير شبكة تُسمى "جمعية التكنولوجيا الأخلاقية"، إنه "لا توجد طريقة" لجعل النمو الهائل للذكاء الاصطناعي مستداماً بيئياً.
وتضيف: "يمكننا جعله فعالاً، لكن زيادة كفاءته تعني أننا سنزيد من استخدامه"، موضحة أنه "على المدى الطويل، ليس لدينا ما يكفي من المواد الخام لدعم هذه المنافسة على إنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي أكبر وأسرع".
تؤكد كل من غوغل ومايكروسوفت وأمازون ويب وميتا أنها تختار تقنيات التبريد بعناية بناءً على الظروف المحلية.
وقد حددت جميع هذه الشركات أهدافاً لتكون "إيجابية في مجال المياه" بحلول عام 2030، وهذا يعني أنها تهدف - في المتوسط - إلى إعادة توفير كمية من المياه تفوق ما تسحبه في جميع عملياتها.
ولتحقيق ذلك، تموّل هذه الشركات، وتدعم مشاريع للحفاظ على إمدادات المياه أو تجديدها في المناطق التي تعمل فيها - على سبيل المثال من خلال استعادة الغابات أو الأراضي الرطبة وتحديد مواقع التسريبات، أو تحسين الري.
تقول شركة أمازون ويب إنها قطعت 41 في المئة من الطريق نحو هدفها، بينما تقول مايكروسوفت إنها "على المسار الصحيح".
وتُظهر الأرقام التي نشرتها غوغل وميتا زيادة كبيرة في كمية المياه التي تقومان بإعادة تدويرها، لكن دافين يقول إنه لا يزال هناك "طريق طويل لنقطعه" لتحقيق هذه الأهداف.
وتقول شركة أوبن أي آي إنها "تعمل بجد" على كفاءة استخدام المياه والطاقة، مضيفة أن "التفكير المستمر في الطريقة الأفضل لاستخدام قوة الحوسبة لا يزال بالغ الأهمية".
لكن البروفيسور رين يقول إن هناك حاجة إلى تقارير أكثر اتساقاً وتوحيداً في قطاع التكنولوجيا حول استخدام المياه، وأضاف: "إذا لم نتمكن من قياس استخدام الماء، فلن نتمكن من إدارته".