آخر الأخبار

هل تناول توت عنخ آمون الأفيون؟ الكيمياء تثير الشكوك

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

قبل 103 أعوام، عندما اكتشف عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر مقبرة توت عنخ آمون، وقف عاجزا عن تحديد هوية مواد بنية لزجة وذات رائحة قوية عثر عليها في المقبرة، ولم يتمكن أيضا الكيميائي البريطاني ألفريد لوكاس من تحديد طبيعتها عندما قام بدراسة نفس المواد بعد 11 عاما من اكتشاف المقبرة، مكتفيا وقتها بالقول إنها ليست عطورا أو دهونا.

والآن، تقترح دراسة نشرت بدورية "جورنال أوف إيسترن مدترينيان آركيولوجي" أن هذه المواد الغامضة قد تكون مستحضرات أفيونية، مشيرة إلى أن التقنيات المستخدمة، وقت الاكتشاف والسنوات التالية، لم تساعد العلماء على تحديد هوية المواد، وهو الوضع الذي تغير في الوقت الراهن بفضل التقنيات الحديثة التي طورها برنامج الصيدلة القديمة بجامعة ييل الأميركية.

وأتاحت التقنيات الحديثة للعلماء تحديد البصمة الكيميائية للأفيون في مزهرية من المرمر المصري (الألباستر) توجد ضمن مقتنيات متحف بيبودي التابع لجامعة ييل، ولاحظ العلماء أنها مصنوعة من نفس نوع المرمر المصري المستخدم في كثير من المزهريات المكتشفة بمقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون، وهو ما يفتح الباب في رأيهم لاحتمال قوي بأن المادة التي كانت توجد في المزهرية بمقبرة الملك الشاب، والتي عجز العلماء عن تحديد هويتها، هي مستحضرات أفيونية.

ومزهرية الألباستر، التي شملتها الدراسة منقوش عليها بـ4 لغات قديمة، هي: الأكادية، العيلامية، الفارسية، والمصرية. ويشير أحد النصوص المنقوشة عليها إلى أنها مهداة إلى الملك الفارسي خشايارشا الأول الذي حكم الإمبراطورية الأخمينية من عام 486 إلى 465 قبل الميلاد، وكانت الإمبراطورية في ذلك الوقت تمتد من فارس وتشمل مصر وبلاد الرافدين والشام والأناضول وأجزاء من شرق الجزيرة العربية وآسيا الوسطى.

ويشير نص آخر على المزهرية بالخط الديموطيقي، وهو شكل مبسط من الكتابة المصرية القديمة، إلى أن سعتها تبلغ نحو 1200 مليلتر (ويبلغ ارتفاعه 22 سنتيمترا) وهو أثر نادر للغاية، إذ إن المزهريات المصرية المنقوشة المصنوعة من الألباستر التي بقيت سليمة نادرة للغاية، ربما لا يتجاوز عددها 10 مزهريات في مجموعات العالم.

مصدر الصورة مزهرية الألباستر من مجموعة جامعة ييل تحتوي على آثار من المواد الأفيونية (جامعة ييل)

نهجي ثلاثي المراحل

ولأهمية تلك القطعة النادرة، استخدم الباحثون نهجا ثلاثي المراحل غير مدمر طورته جامعة ييل، بدأ باستخراج البقايا العضوية من داخل المزهرية، ثم تحضير العينات كيميائيا كي تكون قابلة للقياس. وأخيرا، التحليل الفاصل والتشخيصي باستخدام كروماتوغرافيا متصلة بمطياف الكتلة.

إعلان

وتوضح الدراسة تفاصيل المراحل الثلاث، حيث لجأ الباحثون إلى تقنية دقيقة تُعرف باسم "التحريك بالمذيب الساخن" للوصول إلى البقايا العضوية المخبأة داخل مزهرية الألباستر، وهي طريقة غير مدمرة تتيح استخلاص المركبات الكيميائية من داخل الأواني الأثرية دون خدشها أو كسرها.

واختار الفريق استخدام "الإيثانول" عالي النقاوة لكونه أقل سمية، وسهل النقل في مواقع الحفريات والمتاحف، إضافة إلى قدرته المميزة على إذابة طيف واسع من المركبات.

وتبدأ العملية بتسخين كمية صغيرة من الإيثانول إلى ما دون درجة الغليان، ثم تدويرها داخل الإناء برفق لمدة قصيرة، مع تحريك خفيف يسمح بفصل أي بقايا ملتصقة بالجدران الداخلية، وبعد ذلك يُجمع المذيب المحمل بالمواد العضوية ويصفى بعناية في قوارير خاصة، على أن تكرر العملية عدة مرات للحصول على نتائج أكثر دقة.

ولضمان مصداقية التحليل، حرص الباحثون على فصل الدفعة الأولى من المذيب -التي قد تحمل بقايا تلوث حديث- عن الدفعات التالية التي يعول عليها في تحديد هوية المواد الأصلية، كما حافظوا على سلامة المزهرية بالكامل عبر استخدام طريقة غير مدمرة، على عكس طريقة الغليان التي تستخدم فقط مع الشظايا الصغيرة، والتي لا تناسب القطع الأثرية الكبيرة أو الحساسة مثل الألباستر.

وبهذه الخطوة المحكمة، بات لدى العلماء مستخلص عضوي نقي يمثل "ذاكرة كيميائية" لما كان يحفظ داخل المزهرية قبل آلاف السنين، وأصبح هذا المستخلص جاهزا للمرحلة الثانية، وهي تحضير العينات.

وتهدف هذه الخطوة إلى ضمان أن تكون العينة جاهزة تماما للكشف عن أي مركبات دقيقة، حتى تلك التي تبقى بكميات ضئيلة عبر آلاف السنين.

ويعمد الباحثون في البداية إلى تركيز العينة عبر تبخير لطيف للمذيب، بحيث يظل الجزء الحيوي المحتوي على المركبات الكيميائية هو محور التحليل، ثم تجرى عملية أساسية تعرف بـ"التحوير الكيميائي" وهي خطوة تجعل الجزيئات أكثر تطايرا واستقرارا، مما يتيح مرورها بسهولة داخل أعمدة الفصل في جهاز التحليل الطيفي المتقدم.

وغالباً ما تستخدم هذه التقنية مع مركبات حساسة أو غير متطايرة بطبيعتها، مثل الأحماض الدهنية والسكريات وبعض المركبات المرافقة للقلويدات، من أجل تحويلها إلى أشكال يمكن للجهاز التقاطها بدقة.

وفي بعض الحالات، تضاف معايير داخلية لضبط القياسات والتحقق من دقة النتائج، إضافة إلى تنقية العينة من أي شوائب قد تؤثر على القراءة النهائية.

وبهذه الإجراءات المخبرية الدقيقة، تتحول البقايا العضوية القديمة إلى نموذج تحليلي قابل للقراءة، يساعد العلماء على تتبع بصماتها الكيميائية والوصول إلى هوية المادة الأصلية التي خزنت داخل المزهرية منذ آلاف السنين.

مصدر الصورة المزهرية تضم نقشا بـ4 لغات باسم خشايارشا الأول حاكم الإمبراطورية الأخمينية من عام 486-465 قبل الميلاد (جامعة ييل)

المرحلة الحاسمة في فصل المركبات

وبعد إعداد العينات بدقة، انتقل الباحثون إلى المرحلة الحاسمة، وهي فصل المركبات وتحليلها باستخدام واحدة من أكثر الأدوات العلمية تقدما في الكشف عن البصمات الكيميائية، وهي الكروماتوغرافيا الغازية المتصلة بمطياف الكتلة، وهي التقنية التي تعد المعيار الذهبي في تحليل البقايا العضوية القديمة.

إعلان

واعتمد الفريق في البداية على أجهزة " أجيلنت سي 5975/ إيه 7890 " لإجراء التحليل الأولي للعينات، قبل الانتقال لاحقا إلى أجهزة أحدث من الطراز "أجيلنت سي 5977 /8890 " للحصول على نتائج مكررة وأكثر دقة.

ولفصل المركبات داخل العينة، استخدم الباحثون عمود كروماتوغرافيت من نوع "إتش بي-5 إم إس" وهو من الأعمدة المعروفة بقدرتها على التعامل مع طيف واسع من المركبات العضوية، بما فيها مركبات الأفيون.

وتم حقن العينات في الجهاز عبر وضعية "سبلتلس" لضمان دخول كامل محتوى العينة دون فقد، بينما ثبتت واجهة الحقن عند 250 درجة مئوية، مع استخدام غاز الهيليوم كناقل لضمان فصل سلس وثابت للمركبات أثناء مرورها داخل العمود.

واتبع الباحثون برنامج تسخين دقيقا يبدأ عند 100 درجة مئوية ويرتفع تدريجيا حتى 250 درجة بمعدل 5 درجات في الدقيقة، ثم يتم الحفاظ على هذا المستوى لمدة 10 دقائق، وهي عملية تستغرق نحو 40 دقيقة لكل عينة.

ولضمان أن النتائج خالية تماما من أي تلوث، التزم الفريق بإجراءات صارمة، من بينها تنظيف الإبرة تلقائيا عدة مرات بالميثانول، وتشغيل تحاليل فارغة باستخدام مذيبات نقية قبل وبعد كل عينة، إضافة إلى تغيير أدوات الحقن الداخلية عند الحاجة.

5 بصمات كيميائية

وباستخدام هذه المنهجية الدقيقة، تمكن العلماء من التقاط البصمة الكيميائية الكاملة لمركبات الأفيون داخل المزهرية القديمة، وهي المورفين، النوسكابين، البابافيرين، الثيبائين، الهيدروكوتارنين. وهذا يعني أنها كانت تحتوي فعلا على مستحضرات مشتقة من نبات الخشخاش.

ويقول المؤرخ وكاتب علم المصريات بسام الشماع -للجزيرة نت- إنه يرجح أن تكون استخدامات الأفيون لأغراض طبية لا ترفيهية، وذلك بسبب وجود كثير من الأدلة الأثرية التي تدعم الاستخدام الطبي للأفيون، ومنها نصوص طبية قديمة مثل بردية إيبرس، كما أشار الطبيب البريطاني وأستاذ التخدير "جون إف نن" لاستخدامات الخشاش الطبية في كتابه "الطب المصري القديم ".

ويضيف أن "زهرة الخشاش وجدت منقوشة على جدران المعابد في أكثر من منظر، وعثر في اكتشافات سابقة على آثار للأفيون في أوان مصرية وداخل قبر شخص عادي في منطقة سدمنت جنوب القاهرة، مما يشير إلى أن استخدام الأفيون كان منتشرا بين الطبقات الاجتماعية المختلفة وليس مقتصرا على النخبة".

ويدعو الشماع إلى الاستفادة من المنهجية التي تستخدمها جامعة ييل لحسم هوية المواد التي وضعت في الأواني الموجودة بمقبرة توت عنخ آمون، والمحفوظة الآن في المتحف المصري الكبير.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار