مرر أصابعك على فروع المرجان الرخو المعروف باسم "ليبتوجرجيا تشيلينسيس" الممتد على طول ساحل المحيط الهادي من كاليفورنيا حتى تشيلي، وستحدث خدعة دفاعية مذهلة، فأذرعه المرنة تتصلب في لحظة، كأنها بطل خارق يشد جسده استعدادا للهجوم.
وفي دراسة جديدة نشرت يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول بمجلة "بي إن إيه إس" قال باحثون إنهم فكوا آلية هذا السلوك المدهش، في اكتشاف قد يغير طريقة تصميم أدوات الجراحة والروبوتات والمواد الصناعية.
وكشف الباحثون كيف أن هيكل هذا المرجان المصنوع من ملايين الجزيئات المعدنية المعلقة داخل مادة هلامية (جيل) يمكنه ضغط نفسه بسرعة ليتحول من لين إلى صلب عند الإحساس بالخطر، وفق "شينهاو هو" باحث الدكتوراه بعلم هندسة المواد في جامعة بنسلفانيا، والمؤلف الرئيسي للدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت.
يشرح "هو": الأمر يشبه تماما ازدحام المرور، فعندما يتعرض المرجان للمس أو إزعاج، تقوم أنسجته بطرد الماء منها، فينكمش الجيل، مما يدفع الجزيئات المعدنية إلى الاقتراب الشديد بعضها من بعض، حتى تنحشر في مكانها وتغلق الهيكل.
وتعرف هذه العملية باسم "الانحشار الحبيبي" أي أن حبيبات صغيرة كانت حرة الحركة تصبح متشابكة ومقفلة معا عندما تضغط بقوة.
ويدرس الفيزيائيون هذا السلوك منذ سنوات باستخدام الرمل أو بن القهوة، لكن هذه هي المرة الأولى التي يرصد فيها "الانحشار الحبيبي" المعتمد على جزيئات صلبة داخل كائن حي.
ويقول "هو": تخيل أنك تستطيع ضبط صلابة أداة جراحية أو ذراع روبوتية وقتما تشاء. في هيكل هذا المرجان، في الطبيعة مادة مذهلة يمكن أن نستعير مبادئها.
ويشير الباحثون إلى أن هذا الهيكل الذكي للمرجان ليس مصنوعا من معدن نادر أو بوليمر غامض، بالعكس، إنها في الأساس طباشير، أي كربونات الكالسيوم، نفس المادة الرخيصة التي تكون أصداف البيض، والطباشير، والرخام، والحجر الجيري واللآلئ، إذ إن الاختلاف ليس في المادة نفسها بل في طريقة تنظيمها.
وفي الشعاب المرجانية الرخوة، لا يوجد قالب عظمي واحد صلب كما في المرجان الحجري. وبدلا من ذلك، يكون الجسم مدعوما بملايين الجزئيات المعدنية الصغيرة جدا، وتكون عائمة داخل مصفوفة هلامية لينة، وهو ما يسمح للمرجان أن يكون مرنا في الوضع العادي، ثم متصلبا عند التهديد.
وكان علماء الأحياء البحرية يعرفون منذ زمن أن هذه الشعب المرجانية الرخوة تحتوي على جزيئات معدنية صلبة تسمى "سكليرايتات" لكنهم استخدموا شكل هذه الجزيئات في الغالب للتمييز بين الأنواع، أكثر من فهم دورها الميكانيكي.
كما ركزت الأبحاث السابقة على الأشكال كوسم تصنيفي، لا كحل هندسي وظيفي، خصوصا من زاوية الانحشار الحبيبي، وفقا للدراسة الجديدة.
يوضح المؤلف الرئيسي للدراسة أن الدراسات التطبيقية السابقة حاولت استغلال مبدأ "الانحشار الحبيبي" لصنع أدوات تتغير صلابتها.
وأحد الأمثلة الشهيرة كان ذراعا ممسكة لروبوت صناعي مملوءة بحبيبات (مثل الرمل) بحيث تلتف الذراع حول جسم معقد الشكل وهي لينة، ثم تتصلب فجأة لتلتقطه. ورغم نجاح الفكرة، كانت هناك مشكلة في التحكم في شكل الحبيبات نفسها.
وللحبيبات العشوائية مثل الرمل أو البن أشكال كثيرة وفوضوية، مما يجعل من الصعب دراسة حركتها بدقة. أما الكرات الصغيرة المصنعة (الكرات البلاستيكية أو الزجاجية مثلا) فهي سهلة الإنتاج لكنها تنزلق فوق بعضها لأنها ناعمة جدا، فلا تقفل جيدا عند الضغط.
وتقدم "السكليرايتات" حلا لهذه المعضلة، فهي صغيرة جدا في المرجان، وتشبه أسطوانة دقيقة أو قضيبا صغيرا مغطى بتفرعات أو نتوءات جانبية متكررة، كأنها عصا مزودة بخطافات صغيرة على طولها.
ويوضح الباحث "عندما تقترب هذه الجسيمات من بعضها بما يكفي، تتشابك هذه الفروع الصغيرة وتتداخل، فتمنعها من الحركة. إنها فعليا تقفل نفسها في موقعها، وهنا يحدث التحول الدفاعي: البنية كلها، التي كانت لينة ومنحنية، تصبح فجأة ثابتة ومقاومة للانحناء".
ولدراسة هذه البنية، استخدم الفريق تصويرا متقدما، ونمذجة حاسوبية، واختبارات ميكانيكية لعينات محفوظة من المرجان. ولاحظوا أنه عندما يطبق ضغط خارجي على العينة، تنكمش المادة أولا، أي تشغل حجما أقل لأن الماء يطرد، وتزداد كثافة الجسيمات المعدنية، ثم تبقى في وضع صلب.
ويعتقد المؤلفون أن هذه النتائج قد تكون لها تطبيقات مذهلة مستقبلا، كابتكار أدوات جراحية ناعمة ومرنة داخل الجسم لتتفادى إتلاف الأنسجة الرقيقة، ثم تصبح صلبة لحظة الحاجة إلى دقة القطع أو الغرز، أو ذراع روبوت يمكنه التسلل برفق داخل فتحة ضيقة، ثم التصلب فورا ليحمل وزنا أو يثبت جسما، أو مواد حماية ذكية بالأطراف الصناعية، أو بدلات رواد الفضاء.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة