آخر الأخبار

هل أخطأ العلماء بشأن الانقراضات الخمسة الكبرى؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

مقدمة الترجمة

لطالما رسمت كتب التاريخ صورة مهيبة للانقراضات الجماعية: خمسة أحداث كارثية قلبت موازين الحياة على الأرض، أبادت الديناصورات، وأغرقت المحيطات في صمت موحش، وأحرقت اليابسة بأسرارها المنقرضة. لكن، ماذا لو كانت هذه الصورة مجرد انطباع ناقص؟ ماذا لو أن اليابسة لم تشهد يومًا تلك الكوارث المروّعة التي نسبناها لها بهذا الشكل المُتخيّل؟

في هذا المقال، من مجلة "نيوساينتست" العلمية، نغوص عميقًا في قلب السجلات الأحفورية، ونتتبع ما تقوله النباتات والحشرات والفقاريات البرية عن قصة الانقراض الحقيقي، أو غيابه. وما بين الشك واليقين، وما بين المألوف والمفاجئ، سنعيد معًا التفكير في الماضي، لنفهم الحاضر، وربما ننقذ المستقبل.

مصدر الصورة هذه الكائنات الدقيقة لا تبدو وكأنها شهدت انقراضًا جماعيًا عبر تاريخها (وكالة الأناضول)

نص الترجمة

شهدت الأرض حدثًا يُعد الأشد فتكًا في تاريخها، وهو الانقراض الجماعي في نهاية العصر البرمي، الذي وقع قبل نحو 252 مليون سنة، ويُسمى أيضًا "الموت العظيم". يعتقد العلماء أن هذا الحدث قضى تقريبًا على معظم أشكال الحياة على كوكب الأرض.

ورغم هول هذه الكارثة، كشفتْ لنا الأبحاث الحديثة هذا العام عن مفاجأة مدهشة؛ ففي موقع جيولوجي يُدعى تاودونغو الجنوبي، فيما يُعرف اليوم بالصين، وجد العلماء بقايا نظام بيئي نابض بالحياة، لا يفصل ظهوره عن الكارثة سوى 75 ألف عام، وهي فترة قصيرة للغاية من منظور الزمن الجيولوجي. وكأن الحياة أبت إلا أن تنهض من رمادها، لتعلن عن معجزة متفردة.

على خلاف التصورات الراسخة، لا يرى عالم الحفريات هندريك نواك، من جامعة نوتنغهام البريطانية، في الانقراض البرمي نهاية شاملة كما يُروى، على الأقل في عالم النبات. فعبر تحليله لحبوب لقاح متحجرة من مواقع متعددة، توصل إلى أن الاضطراب الذي سبّبه هذا الحدث لم يكن إلا اضطرابا عابرًا أو محدود الأثر. وبناءً على هذه الأدلة، يجادل نواك بأن الحدث لم يكن بالحدة التي نعتقدها، فلم تشهد النباتات انقراضا جماعيا حقيقيا في ذلك الوقت.

ورغم الجدل الذي أثارته أطروحات هندريك نواك، فإن صدى أفكاره لم يتردد وحيدًا في الأوساط العلمية، إذ أجريت دراسات على الحشرات وحيوانات اليابسة ذات الأطراف الأربعة، ورسمتْ ملامح رواية مماثلة تؤكد أن الحياة على الأرض ربما لم تُسحق تحت وطأة الانقراض البرمي كما كنا نعتقد.

إعلان

لم يعد نواك وحده الذي يتبنى هذا الرأي، إذ يشاركه الشك عالمُ الحفريات سبنسر لوكاس، من متحف نيو مكسيكو للتاريخ الطبيعي والعلوم، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، معلنًا اعتقاده بأن الحياة على اليابسة لم تعرف يومًا انقراضًا جماعيًا بحق. ويضيف قائلاً: "تملك الكائنات البرية فرصة أفضل للنجاة من انقراض كبير، مقارنة بأقرانها في أعماق البحار".

قد يُعيد هذا التحول الجذري في طريقة فهمنا للانقراضات؛ كتابة تاريخ الحياة على كوكب الأرض من جديد. فإذا ثبتت صحة هذه الرؤية، فإنها ستقلب المفهوم الراسخ بأن القارات شهدت 5 حالات انقراض جماعي كبرى. بل إن لهذا التوجه تأثيرًا أعمق قد يتجاوز الماضي، ويُعيد تشكيل فهمنا لأبعاد أزمة التنوع البيولوجي الحالية الناجمة عن الأنشطة البشرية.

صحيح أن الديناصورات التي انقرضت قبل نحو 66 مليون سنة تُعد أشهر ضحايا الانقراضات الجماعية، إلا أن معظم ما نعرفه عن هذه الأحداث الكارثية يستند في الأساس إلى دراسة الحياة البحرية. ففي عام 1982، أجرى عالمَا الحفريات، ديفيد راوب، وجاك سيبكوسكي، تحليلًا لسجل الحفريات البحرية يمتد إلى نصف مليار سنة، ولاحظا خلاله 5 فترات شهدت انهيارات حادة في التنوع البيولوجي البحري.

أصبحت تُعرَف هذه الفترات لاحقًا باسم "الانقراضات الخمسة الكبرى"، وهي: نهاية العصر الأوردوفيشي (قبل 445 مليون سنة)، وأواخر العصر الديفوني (قبل 372 مليون سنة)، ونهاية العصر البرمي (قبل 252 مليون سنة)، ونهاية العصر الترياسي (قبل 201 مليون سنة)، وأخيرًا نهاية العصر الطباشيري (قبل 66 مليون سنة)، وهو الحدث الذي شهد انقراض معظم الديناصورات. وقد أرست هذه التحليلات الأساس الذي انطلقت منه فرضية أن الأرض مرت بخمس موجات كبرى من الانقراض الجماعي.

مصدر الصورة نهاية العصر الطباشيري (قبل 66 مليون سنة)، وهو الحدث الذي شهد انقراض معظم الديناصورات (رويترز)

ما وراء المحيطات

لا شك في أن الانقراضات الجماعية الكبرى اجتاحت أعماق البحار بكل عنف، مدمّرةً عوالم كاملة من الكائنات البحرية. لكن، باستثناء الديناصورات، لم يكن واضحا في البداية ما إذا كانت تلك الكوارث قد امتدّت أيضًا إلى النظم البيئية على اليابسة. في الوقت نفسه، يتذكّر مايك بينتون، من جامعة بريستول، كيف كانت كتب الثمانينيات تؤكد بثقةٍ أن لا أدلة واضحة على حدوث انقراض جماعي لرباعيات الأطراف التي عاشت على اليابسة في نهاية العصر البرمي.

بدت تلك الكائنات التي تنحدر منها اليوم الزواحف والبرمائيات والطيور والثدييات، وكأنها نجت من مقصلة الفناء الجماعي. ويرى بينتون أن هذا التصور لم يكن نتيجة قناعة علمية بقدر ما كان نتيجة نقص في البيانات، فالكائنات البحرية الميتة يَسهُل أن تُدفن في قاع البحر وتبدأ عملية التحجّر، أما الكائنات البرية فاحتمالية تحوّلها إلى أحافير أقلُّ بكثير، مما يجعل الأدلة على وجودها أو انقراضها أندر وأصعب في التتبع.

ومع أن الأرض نادراً ما تحتفظ بأسرارها كاملة، فإن بعض المواقع الجيولوجية القليلة نجحت في تخليد جزء ثمين من سجل الحياة على اليابسة خلال لحظات الانقراض الجماعي. وعلى مدار الأعوام الثلاثين الماضية، كرس الباحثون جهودًا مضنية في جمع وتحليل بقايا الكائنات الرباعية الأطراف من هذه المواقع. وبحسب مايك بينتون، بدأت ملامح الصورة تتضح شيئا فشيئا، فقد شهدت اليابسة -كشأن المحيطات- انقراضات جماعية لتلك الكائنات.

إعلان

ويبدو ذلك منطقيًا، خاصة أن الانقراضات الخمسة الكبرى كانت مدفوعة بمجموعة من العوامل البيئية العنيفة، مثل التغير المناخي السريع، والاضطرابات البيئية الهائلة الناتجة عن ارتطام الكويكبات أو النشاط البركاني. ويضيف بينتون أن هناك تفاعلات كبيرة ومعقدة بين اليابسة والمحيطات، فمثلاً، ظاهرة الاحتباس الحراري الجامح تمتد أثرها بلا رحمة إلى الجميع. لهذا، يصعب أن نتخيل انقراضًا جماعيًا بهذا الحجم يمكن أن يضرب أحد الجانبين دون أن يمتد أثره إلى الجانب الآخر.

لقد أصبحت العلاقة بين الانقراضات الجماعية في البحر والبر واضحة إلى حدّ أن العديد من العلماء باتوا يعتبرونها حجر الأساس لفهم تلك الأحداث الكارثية. ومن جانبه، يقول بول ويغنال، من جامعة ليدز في المملكة المتحدة: "لا تعرف الانقراضات الجماعية حدودًا، إنها تضرب كل شيء في الوقت نفسه.. لا تفرّق بين المحيطات واليابسة".

ومع ذلك، أبدى بعض الباحثين شكوكًا حول هذا التصور، ويبرز من بينهم عالم الحفريات سبنسر لوكاس. ففي ورقة بحثية نُشرت عام 2017، درس لوكاس الادعاء القائل بوقوع انقراض جماعي لرباعيات الأطراف البرية في نهاية العصر البرمي، وتوصل إلى نتيجة مغايرة، وهي أن بعض الانقراضات حدثت بالفعل، لكنه قدّر أن أقل من 20 جنسًا فقط قد اختفى، وهو عدد ضئيل لا يرقى إلى مستوى الكارثة البيئية، خاصة في وقتٍ كانت فيه الأرض تعج بمئات -وربما آلاف- الأجناس من تلك الكائنات. ويضيف: "لم يكن هناك انقراض جماعي كبير لرباعيات الأطراف على اليابسة في نهاية العصر البرمي".

منذ ذلك الحين، وسّع لوكاس نظرته النقدية لتشمل بقية الانقراضات الخمسة الكبرى. وفي مراجعة نُشرت عام 2021، خرج باستنتاج جريء، وهو أن الكائنات الرباعية الأطراف التي عاشت على اليابسة لم تتأثر بشكل يُذكر بأيٍّ من تلك الانقراضات، بل نجت منها بأقل الخسائر، ويعبّر عن رأيه بصراحة قائلاً: "أعتقد أن هناك الكثير من المبالغات في هذا الأمر".

صحيح أن اختفاء الديناصورات غير الطائرة في نهاية العصر الطباشيري يُعد حدثًا جللًا، إلا أنه لا يرقى إلى مستوى الانقراض الجماعي بالمعنى الحاسم. فها هي التماسيح -من كبار سكان اليابسة- قد عبرت العاصفة سالمة، وكذلك الثدييات، وحتى الطيور، التي هي في الأصل سلالة من الديناصورات، لم تنقرض أيضًا. ويرى لوكاس أن رباعيات الأطراف البرية تتمتع بميزة تجعلها أكثر قدرة على النجاة، فالهواء أقل لزوجة من الماء، ما يعني أن الهجرة إلى بيئات جديدة بعد تدهور الموطن الأصلي تُكلِّف طاقة أقل بكثير للكائنات البرية، مقارنةً بالكائنات البحرية.

الحشرات.. أبطال البقاء في وجه الانقراض

كان من الطبيعي أن يثير هذا الادعاء الجريء موجة من الجدل والرفض. فعلى سبيل المثال، يُصرّ مايك بينتون على أن هذه الكائنات شهدت بالفعل موجة انقراض هائلة في نهاية العصر البرمي، شملت انقراض فروع كاملة مثل الجورجونوبسيات، وهي مجموعة من الحيوانات المنقرضة التي كانت تعيش خلال العصر البرمي المتأخر، وتعتبر من أوائل الحيوانات ذات الأسنان السيفية.

لكنه يوضح أن هذا الانقراض لم يكن لحظة مفاجئة، بل امتد على مدى مليون عام تقريبًا. ويرى أن لوكاس أغفل "الصورة الكبرى" عندما ركّز تحليله فقط على اللحظات الأخيرة من تلك المرحلة الطويلة من الانحدار البيولوجي. ومن بين الأصوات المنتقدة أيضًا بول ويغنال، الذي علّق قائلا: "من العدل أن نقول إن وجهة نظر لوكاس لا تمثل التيار السائد في المجتمع العلمي".

ومع ذلك، لا يُعدّ لوكاس الصوت الوحيد الذي يشكّك في نموذج "الانقراضات الخمسة الجماعية". فبعيدًا عن الجدل المتعلق برباعيات الأطراف، بدأ باحثون متخصصون في دراسة مجموعات أخرى من الكائنات البرية الكبرى؛ بالتوصّل إلى استنتاجات مشابهة.

إعلان

إذا شئنا أن نُجسّد ما نقول، فالحشرات خير شاهد على ذلك، إذ يوجد منها اليوم ملايين الأنواع. ففي عام 2021، تعاونت ساندرا شاشات، التي تعمل حاليًا بجامعة هاواي في مانوا، مع كونراد لاباندييرا، من المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في واشنطن، لدراسة السجل الأحفوري للحشرات. وخلصا كلاهما إلى أن هذه الكائنات الدقيقة لا تبدو وكأنها شهدت انقراضًا جماعيًا عبر تاريخها. لكن هذا لا يعني أن الحشرات عاشت حياة خالية من الأزمات، إذ شهدت مجتمعاتها تحولات كبيرة قرب نهاية العصر البرمي.

في تلك الفترة، انقرضت مجموعات مهمة، مثل الحشرات الشبيهة باليعاسيب المعروفة باسم "شبكيات الأجنحة القديمة"، بينما صعدت مجموعات أخرى مثل "نصفيات الأجنحة" التي تضم "البق الحقيقي" إلى واجهة المشهد البيئي. ومع ذلك، تؤكد ساندرا شاشات، أن الطريقة التي حدثت بها هذه التغيرات ما تزال غامضة، بسبب هشاشة السجل الأحفوري للحشرات، الذي يفتقر إلى بيانات تغطي نحو 20 مليون سنة قرب نهاية العصر البرمي.

وعلى امتداد هذه الفترة الزمنية الطويلة، قد يمر مجتمع الحشرات بتحوّلات كبيرة وتغيرات عميقة تحدث تدريجيًا، دون أن يكون هناك بالضرورة كارثة كبرى أو انقراض مفاجئ. وتوضح شاشات أن المشكلة الأساسية تكمن في نقص السجل الأحفوري، فعندما تكون الفجوات الزمنية بين الحفريات المتوفرة كبيرة وتمتد لعشرات الملايين من السنوات، يغدو من الصعب تتبعُ التغيرات بدقة. كما أنه من الطبيعي أن تظهر اختلافات كبيرة بين ما نراه في كل فترة زمنية، سواءٌ وقع انقراض جماعي أم لم يقع.

يرى بعض الباحثين، ومن بينهم ويغنال، أن التغيرات التي طرأت على مجتمع الحشرات قرب نهاية العصر البرمي، يُحتمل أن تكون نتيجة لانقراض جماعي، وهو تفسير يبدو منطقياً في نظرهم. لكن شاشات تُبقي الباب مفتوحاً أمام هذا الاحتمال، مع تأكيدها على نقطة أساسية كثيرًا ما نغفل عنها، وهي أن الحشرات تتمتع بقدرات مذهلة على التكيّف والبقاء في وجه الأوقات العصيبة.

ففي دراستها التي نُشرت عام 2021 مع لاباندييرا، أوضحت أن الحشرات تتميز بأعداد هائلة ودورات حياة قصيرة، ما يمنحها قدرة فائقة على التغيّر السريع والتأقلم مع البيئات المتقلبة. إلى جانب ذلك، تمتلك الحشرات آلية دفاع طبيعية تُعرف باسم "البيات" أو "السبات المؤقت"، حيث تدخل في حالة خمول إلى أن تتحسن الظروف البيئية.

الجدير بالذكر أن بعض اللافقاريات البحرية تمتلك سمات شبيهة بتلك التي تساعد الحشرات على النجاة، إلا أن العيش في البيئة البحرية قد يجعلها أكثر عرضة للانقراض، كما تشير ساندرا ولاباندييرا. فالتحولات في مستويات الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي يمكن أن تؤدي إلى موت الكائنات البحرية اختناقًا نتيجة لنقص الأوكسجين.

أما الكائنات البرية فهي لا تواجه هذا النوع من المخاطر البيئية. وعن ذلك، تقول ساندرا: "نلاحظ تغيرات هائلة في المجتمعات البحرية تتزامن مع انخفاض مستويات الأوكسجين في الغلاف الجوي، لكن حين نُقارن ذلك بسجل الحياة على اليابسة، لا نجد شيئًا مماثلًا".

مصدر الصورة التغيرات التي طرأت على مجتمع الحشرات قرب نهاية العصر البرمي، يُحتمل أن تكون نتيجة لانقراض جماعي (شترستوك)

لا يبدو أن السجل الأحفوري للنباتات البرية ينصاع للرواية الكلاسيكية التي تروي حكاية الانقراضات الخمسة الكبرى. ففي عام 2013، غاص كل من بورخا كاسكالس ميانيانا، الذي يعمل حاليًا بجامعة ليل بفرنسا، وكريستوفر كليال، الذي يعمل حاليًا بجامعة بريستول، في أعماق هذا السجل الأحفوري، ليخرجا بنتيجة لافتة، وهي أن انقراضات النباتات الجماعية نادرة، وربما أندر مما كنا نظن.

فعلى سبيل المثال، لم تنقرض أي عائلة من النباتات الوعائية -كالسراخس والصنوبريات- خلال ما يُعرف تقليديًا بالانقراض الخامس عند نهاية العصر الطباشيري، بل خلصا إلى أن حدثًا واحدًا فقط من بين "الخمسة الكبار" -وهو نهاية العصر البرمي- يمكن أن يُعَد انقراضًا حقيقيًا للنباتات. ومع ذلك، فإن الاكتشافات الحديثة في موقع "ساوث تاودونغو" (حيث وُجدت حياة نباتية نابضة بعد فترة وجيزة من تلك الكارثة*)، تُلقي بظلال الشك حتى على هذا الحدث.

في السياق ذاته، يقول عالم الحفريات هندريك نواك، من جامعة نوتنغهام البريطانية: "حين نتأمل السجل الأحفوري من منظور شامل، سيتبدى بوضوح أن شيئًا جللا قد وقع.. لقد تغيّرت النباتات البرية تغيرًا ملحوظًا". فمثلا، اختفت الغابات التي كانت تهيمن عليها نباتات السراخس اللسانية، أو ما تُسمى "الغلوسوبتريس" في نهاية العصر البرمي، لكنه يتساءل: "هل يكفي هذا لنُطلق عليه انقراضًا جماعيًا؟".

إعلان

في دراسة نُشرت عام 2019، رأى نواك وزملاؤه أن الإجابة هي لا، وخلصوا إلى أن ما جرى لم يكن كارثة شاملة، بل تأثيرًا متفاوتًا. بمعنى أن بعض النباتات -مثل السرخسيات- قد تضررت، بينما نجت أخرى وازدهرت، مثل الصنوبريات التي يبدو أنها تنوّعت وتكاثرت.

لكن في الجهة الأخرى من هذا الجدل، يقف كاسكالس ميانيانا وكليال ثابتين على رأيهما بأن نهاية العصر البرمي كانت بالفعل لحظة انقراض جماعي في عالم النبات، ويشيران إلى أن فريق نواك استند بشكل أساسي إلى دراسة حبوب اللقاح والأبواغ التي تُنتجها الأشجار بالمليارات، وهو ما قد يخلق انطباعًا زائفًا بوجود تنوع نباتي حتى في ظل تراجع حقيقي.

تأكيدًا على ذلك، يقول كاسكالس ميانيانا: "إذا كنت تحصي الأبواغ، فأنت لا تحصي النباتات". (والأبواغ هي خلايا تكاثرية دقيقة تُنتجها بعض الكائنات الحية مثل الفطريات، والطحالب، والنباتات، وتُستخدم أساسًا للتكاثر أو الانتشار أو البقاء في الظروف القاسية.*) وبرغم ما يُثار من خلاف، فإن الخلاصة الكبرى تبقى ماثلة بوضوح، وهي أن النباتات لم تكن الضحية الكبرى في معظم الانقراضات الخمسة، وهي فرضية أصبحت اليوم أشبه بقناعة راسخة في وجدان علماء النباتات القديمة، كما يوضح كليال.

يرجّح العلماء أن السبب وراء عدم تعرض النباتات لانقراضات جماعية حقيقية يعود بالأساس إلى طبيعتها البيولوجية. فالنباتات تمتلك آليات متطورة تتيح لها الصمود في وجه الكوارث البيئية، ويشير الباحث كليال إلى أن أبرز هذه الآليات هي قدرتها على البقاء لفترات طويلة -قد تمتد لعقود أو حتى قرون- في هيئة بذور أو أبواغ كامنة تنتظر الظروف الملائمة لتنبت من جديد.

ولتوضيح ذلك، يُقدِّم مثالًا بسيطًا بقوله: "تخيّل معي لو قُدّر لجميع الفيلة أن تُبَاد من على وجه الأرض، ستكتشف أنه لا يوجد أثر لأي فيل على الإطلاق بعد 10 سنوات، في حين لو اجتُثتْ جميع أشجار البلوط فقد تعود غابات البلوط للنمو بعد 10 سنوات، لأن ثمار البلوط -وإن قُطعت الأشجار- تشرع في النمو مجددًا.

مصدر الصورة النباتات لا تنقرض في مثل هذه الظروف (غيتي)

هل نحن على أعتاب انقراض سادس؟

إن نجاة النباتات من معظم -وربما جميع- الانقراضات الخمسة الكبرى تفتح الباب أمام تساؤل فلسفي عميق، طرحه لأول مرة العالِمان كاسكالس ميانيانا وكليال في دراستهما عام 2013: "هل يحق لنا أن نصف حدثًا ما بالانقراض الجماعي إذا كان أثره يطال كائنات محددة فقط، بينما تمر مجموعات كبرى أخرى -كالنباتات- دون أن تنحني لعاصفته؟

يرى سبنسر لوكاس أن الجواب هو لا. ففي نظره، لا يكون الانقراض حقًّا جماعيًا إلا إذا انهارت القاعدة التي يقوم عليها الهرم البيئي، وهي النباتات. ويتساءل ساخرًا: "كيف تنهار منظومة الحياة على اليابسة إذا كانت جذورها -أي النباتات- لا تزال متماسكة؟ وبما أن النباتات لا تنقرض في مثل هذه الظروف، فكيف تنهار المنظومة الحيوانية إذًا؟".

تتسع فجوة الشك يوماً بعد يوم حول ما يمكن اعتباره "انقراضا جماعيا"، وهذه الريبة لا تقف عند حدود الجدل الأكاديمي، بل تمتد لتطال فهمنا العميق لأزمة التنوع البيولوجي الراهنة التي يشهدها كوكب الأرض بفعل النشاط البشري. لقد بات من المألوف أن يُطلق البعض على ما نعيشه اليوم اسم "الانقراض الجماعي السادس"، غير أن الواقع قد يكون أكثر تعقيدًا، فبالنسبة للحياة على اليابسة، قد يكون هذا في الحقيقة أول اختبار لها من هذا النوع. ومع ذلك، فإن مجرد إطلاق تسميات كهذه قد لا يكون دقيقًا أو منصفًا.

ففي دراستهما المنشورة عام 2021، تُحاجِج العالمة ساندرا شاشات وزميلها لابانديير بأن الإعلان عن انقراض جماعي بين الحشرات لا ينبغي أن يتم إلا إذا شهدنا اندثار فروع كاملة من شجرة تطورها. ولا جدال في أن هذه الكائنات الصغيرة تمرّ حاليًا بفقدان كارثي في أعدادها، إلا أن الباحثين يؤكدان عدم وجود دلائل حقيقية تشير إلى أننا بلغنا حافة هاوية بهذا القدر من التطرّف.

قد يبدو من التهور أن نشكك في مصطلح "الانقراض الجماعي السادس" الذي هو أشبه بصيحة استغاثة في وجه الخراب البيئي المتسارع. ومع ذلك، يرى جون وينز، من جامعة أريزونا، أن التمسك بهذا الخطاب قد لا يخدم القضية كما نظن، ويقول: "تتكرر الدعوات اليوم إلى التحذير من اقتراب الانقراض الجماعي السادس"، لكنه يتساءل: أهو هدف طموح حقا؟ فبرأيه، هذا الهدف ليس طموحًا بما يكفي، ولا يعكس حجم الإلحاح الحقيقي المطلوب في جهود الحماية البيئية.

لفهم جوهر هذا الجدل، لا بد من العودة إلى البدايات، إلى الأساس الذي يُبنى عليه هذا المصطلح. فرغم شيوع الحديث عن "الانقراض الجماعي"، فإنه لا يحظى بتعريف صارم ومتفق عليه، وإن كان هناك إجماع عام على أنه يشير إلى فقدان ما لا يقل عن 75% من الأنواع خلال فترة تمتد من عدة آلاف إلى نحو مليوني سنة.

وفي ضوء هذا المعيار، تبدو الصورة الحالية أقل سوداوية مما يُروّج لها، إذ تُظهر التقديرات أن أقل من 0.1% من الأنواع المعروفة قد انقرضت خلال السنوات 500 الماضية. ويشير جون وينز، في دراسة حديثة شارك فيها مع الباحثة كريستين سابان، من جامعة هارفارد، إلى أن هذه الأرقام توحي بأن "تفادي الانقراض الجماعي السادس -إن جاز لنا وصفه بذلك- قد لا يكون المهمة المستحيلة التي نُصوّرها لأنفسنا، بل سيكون أمرًا يسيرًا مقارنة بما تعنيه الانقراضات الجماعية الحقيقية من دمار شامل".

على الجانب الآخر، يقول وينز ساخرًا: "قد نفقد نصف الأنواع الموجودة على كوكب الأرض خلال السنوات 3000 القادمة، ورغم ذلك سنحتفل قائلين: لقد فعلناها! لقد تجنبنا الانقراض الجماعي السادس". لكن، وبحسب رؤيته، فإن الاكتفاء بمثل هذا الهدف الهزيل لا يعكس طموحًا حقيقيًا في الحفاظ على الحياة، بل قد يكون خادعًا ومضللا.

فلو أردنا فعلًا الحفاظ على تنوع الكائنات، علينا ألّا ننتظر اقتراب الفاجعة، بل نتحرك الآن لمنع الانقراضات البشرية من أن تقترب حتى من عتبة 0.2%. أما أن نطمئن لمجرد أننا لم نبلغ 50 أو 75% من الانقراض، فذاك تساهل لا يليق بحجم التحدي.

لا ريب أن السجال سيظل محتدمًا حول ما إذا كانت اليابسة قد عرفت حقًا 5 موجات من الانقراض الجماعي، أو واحدة فحسب، أم أنها لم تشهد شيئًا منها على الإطلاق. غير أن هذا الجدل العلمي، بكل ما يحمله من أبعاد وتفاصيل، لا يُنقص شيئًا من خطورة ما نواجهه اليوم، وهو ما يؤكد عليه جون وينز بأن هناك أزمة بيئية راهنة وملحّة تستدعي تحركًا عاجلًا. ويضيف أن ربط هذه الأزمة بمفهوم "الانقراض الجماعي السادس" قد يبدو شائعًا ومؤثرًا اليوم، لكنه ليس الطريقة الأنسب أو الأدق للتفكير في الأمر.

____________
* إضافة المترجم

هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار