عام 2025 لم يكن مجرد سنة دامية في تاريخ المجتمع العربي، بل كان لحظة انكشاف كامل لمدى تفكك منظومة الأمن الداخلي، ولعمق تخلّي الحكومة الإسرائيلية عن مسؤولياتها الأساسية تجاه مواطنيها العرب. 252 ضحية خلال عام واحد ليست رقماً عابراً، بل صرخة مدوية تكشف أن الدولة التي يفترض أن تحمي مواطنيها اختارت أن تغيب، وأن تترك مجتمعاً كاملاً يواجه مصيره أمام عصابات مسلحة تسيطر على الشوارع بلا خوف ولا رادع.
التقارير التي نُشرت هذا الأسبوع لا تكتفي بعرض الأرقام، بل تكشف واقعاً أكثر قسوة: غياب شبه كامل للشفافية، وانعدام إرادة سياسية حقيقية لمعالجة الجريمة، وتآكل ثقة المواطنين العرب بكل ما تمثله الدولة من مؤسسات. فبينما تُعد البيانات الجنائية في الدول الديمقراطية جزءاً أساسياً من حق المواطن في المعرفة، تُعامل في إسرائيل - حين يتعلق الأمر بالمجتمع العربي — كأنها أسرار يجب إخفاؤها. لا خرائط للجريمة، لا معلومات عن الشوارع الأخطر، لا بيانات عن انتشار السلاح، ولا أي أداة تساعد الناس على حماية أنفسهم. وكأن حياة العربي ليست جزءاً من مسؤولية الدولة، بل عبء يمكن تجاهله.
وإذا كان هذا الإهمال متجذراً منذ سنوات، فإن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت انفجاراً غير مسبوق في حجمه وحدّته. فمنذ تولّي الوزير المسؤول عن مكافحة الجريمة منصبه، العنصري بن چڤير تحوّلت الوزارة من جهة يفترض أن تقود حرباً على الجريمة إلى جهة تُتّهم بسهولة بأنها تفسح المجال لها كي تتوسع. وبدلاً من بناء منظومة مهنية تحاسب المقصرين وتواجه الجريمة بصرامة، أصبح المطلوب اليوم مساءلة الشرطة نفسها، لأنها تحوّلت في نظر كثيرين إلى جزء من المشكلة بدلاً من أن تكون جزءاً من الحل. فالكشف المتكرر عن حالات يُشتبه فيها بتواطؤ بعض عناصر الشرطة مع رموز الجريمة المنظمة، أو تغاضيهم عن نشاطات اجرامية معروفة، ينسف ما تبقى من ثقة الجمهور العربي بجهاز يفترض أنه خط الدفاع الأول عن أمنه. وحين يصبح المواطن غير قادر على التمييز بين العصابة ورجل الشرطة، فهذه ليست أزمة مهنية عابرة، بل انهيار أخلاقي ومؤسسي يهدد أساس فكرة الدولة.
البيانات تكشف أن الجزء الأكبر من جرائم القتل في المجتمع العربي يتركز في شمال البلاد، في مدن وبلدات تعيش منذ سنوات تحت ضغط الجريمة المنظمة، بينما مناطق أخرى تكاد تكون خارج المشهد. هذا التفاوت يطرح سؤالاً خطيراً: لماذا يُقتل المواطنون العرب بهذه النسب الهائلة في مناطق معينة دون غيرها؟ هل المشكلة في المجتمع نفسه، أم في تعامل الدولة وبعض قادة الشرطة مع هذا المجتمع؟ الإجابة واضحة لمن يريد أن يرى.
الجريمة لم تعد هامشية أو مخفية. معظم جرائم القتل تقع في الشوارع، المواقف، الطرق، والمراكز التجارية. العصابات تتحرك بحرية، تُطلق النار علناً، وتوثّق جرائمها في مقاطع فيديو تُنشر على الشبكات الاجتماعية بلا خوف من الشرطة. النسبة الساحقة من الجرائم تُنفّذ بأسلحة نارية معروف أصلها، ما يعني أن السوق السوداء للسلاح تعمل بلا حسيب أو رقيب، وأن الدولة تعرف — أو يفترض أن تعرف — مصدر السلاح ومساره، لكنها لا تفعل شيئاً. وحين لا تُحلّ سوى نسبة ضئيلة من جرائم القتل، فهذا ليس فشلاً مهنياً فحسب، بل إعلان رسمي بأن حياة العربي رخيصة، وأن قاتله يستطيع النوم مطمئناً.
التقارير تكشف أيضاً عن ظواهر خطيرة: انتحال مجرمين لصفة رجال شرطة، دخول عصابات إلى منازل الناس بزيّ رسمي، ارتفاع جرائم القتل المتعدد، وتزايد حالات القتل على يد الشرطة نفسها. هذه ليست مجرد تفاصيل، بل مؤشرات على تفكك سلطة الدولة في المجتمع العربي، وعلى صعود سلطة بديلة: سلطة العصابات، التي تستهتر بالشرطة ورموزها.
الحكومة لا تستطيع الادعاء بأنها "لا تعرف". كل شيء موثق، وكل شيء واضح، وكل شيء يصرخ بأن هناك مجتمعاً كاملاً تُرك لمصيره. ما ينقص ليس المعلومات، بل الإرادة السياسية. المطلوب بسيط: شفافية، محاسبة، وتجفيف منابع السلاح. لكن ما نراه هو العكس تماماً.
المجتمع العربي ليس مجتمعاً عنيفاً بطبيعته. هو مجتمع تُرك وحيداً في مواجهة عصابات منظمة ومسلحة، بينما الدولة - التي يفترض أن تحميه - اختارت أن تغضّ الطرف، وأحيانا الإهمال الممنهج. 252 ضحية في عام واحد ليست رقماً في تقرير. إنها وصمة عار صارخة على جبين دولة تدّعي الديمقراطية بينما تفشل في أبسط واجباتها: حماية حياة مواطنيها.
المصدر:
كل العرب