لم يكن محمد بكري مجرد ممثل بارع أو مخرج شجاع، بل كان حالة إنسانية وثقافية نادرة، اخترق الجدران العالية التي أُقيمت بين الفن والسياسة، الهوية والإقصاء، وبين الإنسان وواجبه الأخلاقي. عرفته منذ أواخر الثمانينيات، وقبل ذلك من خلال أعماله المسرحية، فكان حضوره يتقدّم علينا جميعًا: عربيًا اسمه محمد، وفنانًا من الصف الأول في دولة لم تُرد يومًا الاعتراف بأن أحد كبار فنانيها يمكن أن يكون عربيًا فلسطينيًا.
وشكّل فيلم «ما وراء القضبان» علامة فارقة في مسيرته، ليس فقط لما حازه من جوائز عالمية ودولية، بل لأنه فرض محمد بكري كاسم كبير في السينما الإسرائيلية والعالمية، وأجبر المؤسسة الثقافية في إسرائيل على مواجهة حقيقة لم تكن مريحة لها، بأن أحد أهم فنانيها هو فلسطيني، عربي، يحمل اسمًا لا يمكن تذويبه أو طمسه.
في عام 1991، حين كنت أعمل في إطار لجنة المتابعة، تواصلنا مجددًا. كان يعرض أعماله في شفاعمرو، عرّابة، طمرة، ومدن وقرى أخرى. اقترحتُ عليه تنظيم عروض في المدارس العربية، وبالفعل جرى ذلك تحت مظلة لجنة المتابعة، ولاقى نجاحًا لافتًا، مؤكّدًا أن المسرح كان بالنسبة له رسالة قبل أن يكون مهنة.
اقترحت عليه آنذاك الاستمرار في إنتاج المسرحية وتوسيعها شمالًا ووسطًا وجنوبًا، لكنه كان قد بدأ يفكّر أكثر في السينما. حيث ان تجربة «ما وراء القضبان» فتحت أمامه أفقًا عالميًا، وأراد أن يواصل هذا المسار، وأن يكون ممثلًا وفنانًا عالميًا، دون أن يتنازل عن هويته أو قناعاته.
في عام 2002، بعد مجزرة جنين بخمسة أيام، زرت المخيم برفقة دبلوماسيين وصحافيين. ما رأيناه هناك كان صادمًا ومقشعرًا، دمار شامل، مئات الشهداء والجرحى، ومخيم تحوّل إلى ركام. في أحد المستشفيات الحكومية في جنين، وبين الطابق الأول والثاني والثالث، التقينا فجأة بمحمد بكري. كان يصوّر فيلمه الذي سيُعرف لاحقًا باسم «جنين جنين».
كان محمد بكري هناك كفنان، وكإنسان، وكشاهد. لم ينتظر إذنًا، ولم يحسب حسابًا للعواقب. صوّر الألم كما هو، وحوّل الكاميرا إلى شهادة حيّة على ما جرى. أصبح الفيلم وثيقة بصرية عالمية، ووقودًا حقيقيًا للوعي الدولي بما تعرّض له الشعب الفلسطيني.
ومباشرة بعد ذلك كان الثمن فادحًا. واجه محمد بكري حملة تحريض غير مسبوقة، محاكمات طويلة، ومحاولات إسكات وتجريم، بذريعة «تشويه سمعة جنود الاحتياط»، سنوات من الملاحقة، العزلة، والضغط الاقتصادي والنفسي، لكنه لم يتراجع، ولم يعتذر، ولم يساوم على الحقيقة.
والأهم من كل ذلك، أنه استمر، استمر في الفن، وفي الإيمان بأن دور الفنان ليس الترفيه فقط، بل الوقوف إلى جانب المظلوم وان الفن رسالة حتى لو كان الثمن باهظًا.
رحل محمد بكري يوم الاربعاء، 24 كانون الأول/ديسمبر 2025، عن عمر ناهز 72 عامًا. رحل الجسد، وبقي الصوت، وبقيت الصورة، وبقيت الجرأة. أؤمن اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن محمد بكري يستحق كتابًا يوثّق حياته، ليس فقط كسيرة فنان، بل كجزء أصيل من تاريخ الحركة الثقافية والفنية الفلسطينية في هذا الوطن.
هذا المقال شهادة شخصية، ومحاولة وفاء لإنسان عرفته عن قرب، وأحببته، واختلفت في الرأي معه أحيانًا، لكنني لم أشك يومًا في صدقه، ولا في انحيازه العميق للإنسان.
رحمك الله وسلامًا لك يا محمد، كنت أكبر من فنان، وكنت أوضح من أن يُسكَت.
المصدر:
كل العرب