آخر الأخبار

بين صناعة الرأي العام والجمود السياسي

شارك

بين صناعة الرأي العام والجمود السياسي
لماذا يشكّل منصور عباس التحدي الحقيقي الوحيد أمام نتنياهو؟

أولًا: الفارق الجوهري بين السياسة الفاعلة والسياسة الساكنة
في كل نظام سياسي، يمكن التمييز بوضوح بين نمطين من الفعل:

سياسة تصنع القرار وتصنع الرأي العام،
وسياسة تنتظر الرأي العام وتلائم نفسها معه.
الأحزاب التي تنتمي إلى النمط الثاني لا تفتقر بالضرورة إلى الأفكار أو الرغبات، لكنها تفتقر إلى الجرأة السياسية. فهي تراقب الاستطلاعات، تقيس المزاج، ثم تتحرك ضمن الحدود التي ترسمها الأرقام. هذه الأحزاب لا تقود الجمهور، بل تُقاد به. ومع الوقت، تتحول من أدوات تغيير إلى أدوات إدارة ركود سياسي.

في المقابل، السياسة الفاعلة تبدأ من الفعل لا من القياس:
تطرح فكرة، تكسر تابوًا، تتحمّل كلفة مؤقتة، ثم تعمل على إعادة تشكيل الوعي العام حتى تصبح الفكرة شرعية، ثم مقبولة، ثم قابلة للقياس في الاستطلاعات.

ثانيًا: منصور عباس كنموذج لصانع قرار وصانع رأي عام
في الفضاء السياسي الإسرائيلي، يبرز منصور عباس بوصفه السياسي العربي—وربما الوحيد عمومًا—الذي يعمل وفق منطق صناعة الرأي العام لا منطق الانجرار وراءه.
خطابه السياسي لم يُبنَ على انتظار اللحظة المريحة، بل على خلقها:
إعادة تعريف المشاركة العربية من “محظور أخلاقي” إلى “خيار سياسي عملي”.
نقل النقاش من الهوية إلى المصالح المدنية.
كسر معادلة “العرب خارج الحكم” دون الادعاء بتغيير بنيوي فوري.
هذا السلوك يضعه في موقع مختلف جذريًا عن معظم أحزاب المعارضة، التي—رغم وجود شركاء داخل قواعدها الشعبية—تتجنب تحويل هذا الاستعداد إلى قرار سياسي واضح، خوفًا من انعكاس ذلك في الاستطلاعات.

ثالثًا: انتزاع الشرعية من نتنياهو

اللحظة المفصلية الأولى في تجربة منصور عباس كانت انتزاع الشرعية السياسية من بنيامين نتنياهو.
لسنوات، بنى بنيامين نتنياهو قوته على احتكار معادلة الحكم:
لا بديل عنه، ولا حكومة ممكنة بدونه، وأي تعاون مع حزب عربي هو تهديد وجودي.
دخول القائمة العربية الموحدة إلى معادلة تشكيل حكومة “التغيير” لم يكن مجرد خطوة تكتيكية، بل كسرًا لاحتكار الشرعية. فقد أثبت أن:
الحكم ممكن دون نتنياهو،
وأن دعم حزب عربي لا يؤدي إلى انهيار النظام السياسي،
وأن التابوهات يمكن كسرها إذا وُجد من يجرؤ على الفعل قبل القياس.
هذه السابقة لم تغيّر الأرقام فورًا، لكنها غيّرت شروط النقاش—وهذا هو جوهر صناعة الرأي العام.

رابعًا: المحاولة الثانية – التوجه إلى جمهور المعارضة لا إلى قياداتها

اليوم، لا يحاول منصور عباس انتزاع الشرعية من نتنياهو فقط، بل إعادة انتزاعها من جديد في سياق مختلف:
السياق المتعلق بإمكانية دخول القائمة العربية الموحدة في ائتلاف حكومي قادم.
وهنا يجب التوضيح بدقة:
المشكلة ليست أن قيادات أحزاب المعارضة تعارض هذه الفكرة مبدئيًا. على العكس، داخل قواعد هذه الأحزاب—وأحيانًا داخل مستويات قيادية غير معلنة—يوجد استعداد حقيقي للشراكة.
لكن هذه القيادات غير شجاعة سياسيًا بما يكفي لصناعة القرار.
هي لا تخاف من منصور عباس، بل تخاف من الاستطلاعات.
ولذلك، اختار عباس مسارًا مختلفًا:
مخاطبة جمهور المعارضة مباشرة، لا قياداتها، لأنه يدرك أن القيادات ستتحرك فقط عندما تُجبرها القاعدة الرقمية على ذلك.
خامسًا: استطلاع معاريف – حين تتحول صناعة الرأي إلى أرقام
في هذا السياق، تكتسب نتائج استطلاع “معاريف” أهمية مركزية، ليس لأنها بداية التحول، بل لأنها دليل على نجاح الخطاب في إنتاج تحوّل تدريجي.
الاستطلاع أظهر أن:
61% من مؤيدي أحزاب المعارضة اليهودية يؤيدون إشراك القائمة العربية الموحدة في ائتلاف حكومي قادم (حتى دون تمثيل وزاري)،
مقابل 25% معارضين،
و14% غير متأكدين.
وعند تفصيل النتائج حسب الأحزاب، تتضح الصورة أكثر:
87% من مؤيدي “الديمقراطيين” يؤيدون دخول الموحدة.
74% من مؤيدي حزب “يشَر” (غادي آيزنكوت) يؤيدون ذلك.
64% من مؤيدي “يش عتيد” يؤيدون الفكرة.
في المقابل، يظهر تحفظ واضح لدى مؤيدي “إسرائيل بيتنا”، مع ميل نسبي للرفض (نحو 47%).
جمهور نفتالي بينيت منقسم تقريبًا بالتساوي.
هذه الأرقام لا تعني أن الطريق سالك بلا عوائق، لكنها تثبت نقطة جوهرية:
القاعدة الشعبية سبقت قياداتها—وهذا بالضبط ما كان يراهن عليه منصور عباس.

سادسًا: لماذا عباس هو التحدي الحقيقي الوحيد أمام نتنياهو؟
ليس لأن عباس يمتلك عدد مقاعد كبير، بل لأنه—مثل نتنياهو—يصنع الرأي العام.
في حين أن معظم الفاعلين السياسيين ينتظرون المزاج، يعمل عباس على تشكيله.
وهنا يكمن التحدي الحقيقي:
نتنياهو بنى قوته عبر صناعة الخوف.
منصور عباس يحاول بناء نفوذه عبر صناعة الشرعية.
وفي فضاء سياسي نادرًا ما يُنتَج فيه رأي عام جديد، يصبح من يصنعه—حتى لو كان وحيدًا—فاعلًا مركزيًا لا يمكن تجاهله.

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا