تؤكّد استطلاعات الرأي جميعها أنّ كتلة نتنياهو ومعسكره تتراوح ما بين 48 إلى 50 مقعدًا، قد تزيد قليلًا أو تنقص، لكنّها لن تصل بأيّ حال إلى عتبة 61 مقعدًا الّتي تضمن حكمًا مستقرًا. هذه الصورة باتت واضحة لكلّ من يريد أن يرى فعلًا، وهي أوضح لنتنياهو نفسه، حيث أنّه على دراية تامّة بأنّه في موازين القوى الحاليّة لن ينجح في بلوغ 61، إلّا إذا "سرق" مقاعد من الطرف الآخر، فتداعيات السابع من أكتوبر، والاصطفافات داخل المجتمع اليهودي، والبيئة السياسيّة والمحكميّة تجاهه، تمنع يقينًا هذا السيناريو.
من هنا تصبح مصلحته واضحة، إذا لم يعد قادرًا على الوصول إلى 61 مقعدًا، فالمهم بالنسبة له أن لا يصل غيره إلى 61، لأنّه في هذه الحالة يبقى هو رئيس الحكومة ما لم تتشكّل حكومة أخرى، ممّا يعني أنّ جوهر لعبته اليوم ليس الفوز بأغلبيّة حاكمة، فهو يعرف أنّه لن يصلها، بل منع أيّ معسكر منافس من تشكيل أغلبيّة بديلة.
في قلب هذه اللعبة يظهر العرب. نتنياهو لا يسعى لتقوية المجتمع العربي ولا لتمثيله السياسي، هل هناك عاقل يشكّ بهذا الادّعاء؟ ما يسعى إليه نتنياهو هو زيادة "حصّة العرب" داخل الكنيست بطريقة تخدم هدفًا واحدًا: ألّا يكون العرب بيضة القبّان لصالح معسكر التغيير. فكرته بسيطة وقاسية في آنٍ واحد، حيث أنّه يريد الموحّدة داخل المشتركة، ويريد المشتركة كتلة واحدة كبيرة، ليس لأنّ هذا يصبّ في مصلحة العرب، بل لأنّ خمسة مقاعد للموحّدة وحدها يمكن أن تجعلها بيضة قبّان حقيقيّة، بينما خمسة مقاعد داخل المشتركة تذوب في كلّ الكتلة ولن تعود قادرة على إيصال معسكر التغيير إلى 61 مقعدًا.
بالتالي، زيادة التمثيل العربي هنا ليس من أجل تعزيز التأثير، بل من أجل تحييده وضربه في العمق. هو يحاول أن يحرق الموحّدة داخل المشتركة، ليحرق المشتركة كلّها دفعة واحدة. من جهة، يمنع العرب من أن يكونوا الكتلة الحاسمة، ومن جهة ثانية، يرفع نسبة التصويت عند اليهود عبر شيطنة المشتركة وتصويرها كخطر.
بهذا المعنى، نحن نفهم لعبة الأرقام جيّدًا، ونعرف أنّ زيادة عدد المقاعد العربيّة، ضمن هذه الهندسة الشيطانيّة، قد تكون وسيلة لقطع الطريق على تأثيرنا لا توسيعه.
نتنياهو يريد شيئًا واحدًا واضحًا: أن يحرق، نهائيًّا، أيّ إمكانيّة لأن يستند "معسكر التغيير" على الأصوات العربيّة. إذا دخلت الموحّدة داخل المشتركة، واندمجت كلّ القوائم العربيّة في كتلة واحدة، تصبح كلّ محاولة لتشكيل حكومة تستند إليها شبه مستحيلة، سياسيًّا وإعلاميًّا. بينيت وأمثاله لن يجرؤوا على تشكيل حكومة تستند إلى أصوات الجبهة أو التجمُّع. ولن تدخل الجبهة أصلًا ولا التجمُّع في مثل هذه المعادلة.
هكذا يصل نتنياهو إلى الهدف الّذي يسعى إليه، بأن يُحكِم الإغلاق على هذا المسار، وأن تُزال ورقة العرب من يد أيّ معسكر بديل. هو يعرف أيضًا أنّ حالة التعقيد والمأزق السياسي الّتي عشناها عام 2019 تخدمه. ثلاث جولات انتخابيّة، فوضى، انغلاق تام، ثمّ يعود هو في النهاية رئيسًا للحكومة، أو يبقى رئيس حكومة انتقاليّة لسنوات، ينتظر حدثًا كبيرًا أو ظرفًا استثنائيًّا يعيد خلط الأوراق.
لهذا لا يمانع نتنياهو بأن تتكرّر هذه اللعبة من جديد، انتخابات وفشل، ثمّ انتخابات وفشل، ليواصل هو إدارة الدولة والمنطقة كرئيس حكومة انتقاليّة، يستنزف المؤسّسات، ويتحيَّن اللحظة الّتي تسمح له بالعودة رسميًّا وبأغلبيّة مريحة، غالبًا ما تكون عنصريّة بدرجات تشكّل تهديدًا على وجودنا.
الحديث هنا لا يدور عن وهم تغيير جوهر السياسات الاستراتيجيّة لإسرائيل عبر تبديل شخص نتنياهو بغيره. التجربة تُثبت أنّ تغيير الوجوه لا يغيّر العمق البنيوي. نحن صريحون مع أنفسنا ومع الناس. هناك وثائق ومحدَّدات تأسيسيّة مثل "وثيقة الاستقلال" وبعض قوانين الأساس الّتي ترسم سقف اللعبة وتحدّده، ولا أحد قادر على قلبها رأسًا على عقب.
إذا أردنا نحن كعرب في هذه البلاد أن نحدّد دورنا الواقعي، فلن يكون أبعد من حماية ما تبقّى من وجودنا هنا في بيوتنا وعلى أراضينا. وهو دور سامٍ ليس بالهيّن، وأعتقد أنّ المناخ العام الّذي تغذّيه الحكومة الحاليّة، تجعل من دورنا مهمّة تحتاج إلى تخطيط وعمل وسعي وأحيانًا تضحيات.
في النقب مثلًا: بدل أن تُمحى القرى واحدة تلو الأخرى، علينا أن نسعى لتثبيت ما يمكن تثبيته من القرى المتبقّية، وتحصيل الاعتراف بها، ومنع هدمها، وتحويلها إلى أمرٍ واقع سياسي وقانوني. في الداخل عمومًا، يمكن تغيير سياسات بعينها، العنف والجريمة يمكن تقليصهما بسياسة حكوميّة مختلفة، الاعتراف بالقرى غير المعترف بها في النقب يمكن دفعه إلى الأمام، سياسة هدم البيوت يمكن الضغط لتغييرها.
أمّا على مستوى الضفّة ومستقبل القدس والأقصى، فهنا الصورة أصعب بكثير. دولة إسرائيل حسمت موقفها بأنّ "القدس الموحّدة" عاصمتها، وهذا محلّ إجماع، وحيث يوجد إجماع لا تستطيع تغييره بسهولة، إن لم نقل يستحيل تغييره من داخل اللعبة البرلمانيّة. مع ذلك، نجحنا في التأثير على الهوامش في القدس والأقصى، وهنالك بيّنات ووقائع يمكن عرضها. لكنّها تبقى تأثيرات هامشيّة على أطراف المشهد، لا على جوهر القرار الاستراتيجي الّذي تبنّاه الإجماع الصهيوني.
أمّا على مستوى القضيّة الفلسطينيّة عمومًا، نحن ما زلنا نؤمن أنّ الحل التاريخي هو حل الدولتين، وأنّ مشروعنا الوطني لا ينفصل عن القضيّة الفلسطينيّة الكبرى. لكنّنا صريحون مع أنفسنا، ونعتقد أنّ إمكانيّة تأثيرنا المباشر على الملف الفلسطيني الشامل محدود جدًّا، وربّما الأرجح أنّ تأثيرنا لن يكون حاسمًا هناك. مع ذلك، يمكن أن يكون لنا دور ما، ربّما في لحظات معيّنة، أو في هوامش تفاوضيّة وسياسيّة محدودة. الأهم من ذلك، أنّ موقفنا من القضيّة الفلسطينيّة يبقى واضحًا وثابتًا، لا نساوم عليه، حتّى ونحن نختار معاركنا في الداخل على ملفات العنف والنقب وهدم البيوت.
ولا بدّ وأن نلتفت إلى مسألة مهمّة، هي واحدة من أكبر مشكلاتنا، هي سلوكيّات بعض قياداتنا العربيّة في الداخل. في الغرف المغلقة، نجلس معهم ونعرض رؤيتنا الواقعيّة بالتفصيل. يسمعون، يوافقون، بل ويهزّون رؤوسهم بنعم وأنّ اللعبة مفهومة. لكن ما إن يغادروا الغرفة، سرعان ما يتحوّلون إلى "أبطال" أمام الجمهور، ويتحدّثون وكأنّهم فرسان لا يُقهرون.
أمام اليسار اليهودي هم "حمائم سلام"، أكثر ليونة من دعاة "السلام الآن"، وأمام جمهورهم العربي يتقمّصون خطابًا ثوريًّا صاخبًا. هذا الانفصام بين الداخل والخارج ليس سياسة، بل نفاق سياسي مكشوف.
قبل سقوط الحكومة السابقة، عُرِضَ على بعض القيادات أن يبقوا في البيت، أن لا يدخلوا لعبة الإضعاف المتبادَل، أن يمنحوا تجربتنا فرصة لتؤتي ثمارها. اختاروا بدل ذلك اللعبة المعروفة، لعبة لا يحسنون غيرها، لعبة المشاركة الدائمة في إسقاط الحكومات، دون تقدير مستقبلي لما هو آتٍ، فساهموا في تدمير ما كان يمكن إنقاذه.
متى يمكن أن تصبح المشتركة خيارًا ضروريًّا؟
اللحظة الحاسمة هي عندما يطلق الحكم صافرته معلنًا تبكير الانتخابات، وقبل تقديم القوائم. عندها فقط، نقوم بتقدير موقف حقيقي، وإذا وصلنا إلى نتيجة حاسمة أنّ إسقاط نتنياهو لا يمكن أن يتحقّق إلّا من خلال رقم انتخابي لا تحقّقه إلّا المشتركة، لن نتردّد لحظة واحدة. لكن هذا لا يُعلَن مبكّرًا، لأنّ الأحزاب قبل الانتخابات شيء، وأثناء الانتخابات شيء آخر.
إذا كانت المشتركة هي الطريق الوحيدة لإسقاط نتنياهو، سنمضي إليها ونسعى لبنائها. أمّا من يكتفي بلغة "منع نتنياهو" ولا يتحدّث عن "إسقاطه واستبداله"، فهو يلعب لعبة خطيرة. من يمنع نتنياهو دون أن يسقطه، يبقيه رئيس حكومة انتقاليّة أخطر وأشرس، لأنّه سيحتاج لكي يضمن عودته أن يكون أقسى وأكثر تطرّفًا. هذه ليست لعبة سياسية عاقلة، بل عبث بمصير شعب ومجتمع كامل، ونحن نأبى أن نشارك في هذه اللعبة العبثيّة. نفهم لعبة الأرقام جيّدًا، ونعي اللعبة السياسيّة جيّدًا، وندرك اللعبة الاستراتيجيّة جيدًا، وعلى هذه المستويات الثلاثة نرفض أن نكون جزءًا من لعبة غير نظيفة.
وكذلك الجبهة تفهم المنطق الّذي نتحدث به، لكنّها خائفة. أكبر همّ على رأسها اليوم هو كيف "تبتلع" الموحّدة داخل المشتركة دون أن تعطي نهجها شرعيّة معلَنة. التجمُّع همّه أن يعود إلى الكنيست بأيّ ثمن تقريبًا، والقيادة هناك اتّخذت قرارًا واضحًا بالعودة للمشتركة مهما كانت الظروف. أمّا أحمد الطيبي، فطريقة عمله أقرب إلى الانتهازيّة السياسيّة الباردة، يستثمر الفرص وفق مصلحته الخاصّة، أكثر ممّا يتحرّك ضمن رؤية جماعيّة واضحة.
هذه ليست شتائم، بل توصيف لواقع سياسي كما نراه من الداخل. قد يزعج البعض، لكنّه أقرب إلى الحقيقة من الخطابات المنمّقة الّتي نسمعها على المنصّات.
في النهاية، رؤيتنا بسيطة ومؤلمة في آنٍ واحد: نحن نعمل ضمن هامش ضيّق، في دولة حدّدت استراتيجيّاتها الكبرى منذ زمن، ولا تنتظر منّا إذنًا لتوسّع احتلالها أو تضيّق حدودها. مهمّتنا الأساسيّة حماية ما تبقّى من وجودنا الفلسطيني العربي الإسلامي في هذا الوطن - في النقب، في الجليل، في المثلّث، في المدن المختلطة، في القدس، وفي الأحياء الّتي يلاحقها الهدم والتطهير البطيء.
ضمن هذه الرؤية، ومع فهم عميق للُّعبة الإسرائيليّة ولغة الأرقام، يجب أن نعمل على توزيع الأدوار بين أحزابنا وقياداتنا، وأن يكون أيّ اختلاف بيننا اختلافًا مبرمَجًا لا تمثيلًا رخيصًا أمام الجمهور.
والأهمّ من ذلك كلّه، أن نكون مباشرين وواضحين أمام الناس بهذه الرؤية، دون أن نغرقهم في تفاصيل تقنيّة معقّدة، ودون أن نخدعهم بشعارات بطوليّة وأوهام فارغة المضمون. الصدق مع جمهورنا، والجرأة في الاعتراف بحدود الممكِن، هما بداية أيّ سياسة نظيفة في هذا الواقع القاسي. وإذا لم نجرؤ على قول هذه الحقيقة، سنظلُّ ندور في نفس الحلقة: أرقام تتبدّل، وحكومات تتغيّر، ونتنياهو، أو من يشبهه، يربح اللعبة مرّة بعد مرّة.
المصدر:
كل العرب