اللقاء بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس بلدية نيويورك المنتخب، ممداني، لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية، بل كان اختبارًا عمليًا لمعنى توازن القوى في السياسة الواقعية. ترامب دخل الغرفة كما يفعل دائمًا، محاولًا فرض هيمنته عبر الضجيج، الأرقام المبالغ فيها، واستدعاء ذكريات الماضي التي يراها جزءًا من هالته الشخصية. لكن ممداني لم يمنحه ما يحتاجه ليستمر في هذا الدور؛ لم يبدِ خوفًا، لم يبالغ في المجاملة، ولم ينجر إلى الغضب. بهذا الهدوء، سحب من ترامب أهم أدواته: القدرة على التحكُم في الإيقاع العاطفي للمشهد.
عندما يفقد ترامب السيطرة، يلجأ إلى أسلوب بديل يقوم على المجاملة المفرطة، في محاولة لاستيعاب الطرف الآخر بدلًا من إخضاعه. لكن هذه المجاملة ليست اعترافًا بالقوة المقابلة، بل تكتيكًا للبقاء في اللعبة. في المقابل، ممداني تمسك بلغة السياسة الواقعية: حديث عن النقل العام، السكن، إصلاح المؤسسات، وحماية المهاجرين. بينما ترامب غرق في سردياته الشخصية، بدا وكأنهما يتحدثان بلغتين مختلفتين، أحدهما لغة الحكم الفعلي والعملي، والآخر لغة الأسطورة الذاتية.
اللحظة الأكثر دلالة كانت حين وصف ممداني سياسات ترامب بأنها تحمل نزعات فاشية، ليس كاتهام دعائي بل كتوصيف مدعوم بأمثلة ملموسة. ترامب لم ينفعل، بل ابتسم، لأنه ببساطة لا يتقن لغة النقد التحليلي، ولا يستوعبها إلا إذا جاءت بصيغة عاطفية مباشرة. هذا العجز كشف حدود قدرته على مواجهة خصم لا يلعب وفق قواعده المعتادة.
في السياسة الواقعية، حين تتوازن القوى، لا يعود الصوت الأعلى هو المنتصر، بل القدرة على الثبات أمام محاولات الهيمنة. ممداني لم يسعَ إلى الانتصار الرمزي، بل إلى الحفاظ على موقعه كفاعل سياسي لا يخضع للابتزاز العاطفي. وترامب، حين سُحب منه سلاح الخوف، اضطر إلى التراجع إلى موقع المجامل، وهو الدور الذي يكرهه أكثر من أي شيء آخر لأنه يفضح هشاشة سلطته. الدرس الأهم أن الاستبداد لا يعيش إلا في بيئة الخوف، وحين يُسحب هذا العنصر من المعادلة، يصبح حتى أكثر الطغاة مجرد رجلٍ يحاول أن يبدو مهذبًا أمام جمهور يعرف أن القناع قد انزاح، وانفضحت حقيقته.
المصدر:
كل العرب