بينما تعرف معظم الأزمات في البلاد وفي العالم بشكل عام، مسارًا متقلبًا بين التصعيد والتهدئة — على مستوى البلاد، من الحرب على غزة، إلى المواجهات في الضفة الغربية، إلى الأزمات السياسية الداخلية — تبقى هناك أزمة واحدة تتفاقم باستمرار دون أي مؤشر على الحل: أزمة الجريمة والعنف داخل المجتمع العربي في الداخل.
في نهاية عام 2023 نشر معهد طاوب بحثًا خطيرًا كشف أن المجتمع العربي في إسرائيل يحتل المرتبة الثالثة عالميًا في عدد ضحايا الجريمة لكل 100 ألف نسمة، بعد كولومبيا والمكسيك. وبحسب المعطيات والتطورات الأخيرة، فإن الصعود إلى المرتبتين الثانية ثم الأولى يبدو مسألة وقت فقط.
ارتفعت حالات القتل في المجتمع العربي بشكل مخيف خلال السنوات الأخيرة، وبوتيرة مضاعفة. ورغم الزيادة المستمرة والمتواصلة منذ بداية الألفية الثانية وتحديدا في العقد الأخير، شهد عام 2022 انخفاضًا وحيدًا بنسبة 16% في عدد ضحايا القتل. في تلك الفترة شغل يوآف سيغالوفيتش منصب منسّق مكافحة الجريمة في المجتمع العربي ونائب وزير الأمن الداخلي في حكومة بينيت–لابيد.
يقول سيغالوفيتش في حديث خاص لـ"سيحا مكوميت" و"بكرا": "بدأ الارتفاع الحاد عام 2016 واستمر بلا توقف. وفي عام 2021 تجاوز عدد الضحايا حاجز المئة ووصل إلى 126. عندما جاءت حكومة التغيير وضعت مكافحة الجريمة هدفًا حكوميًا مركزيًا، وفهمت أن القضية ليست شأن الشرطة وحدها، بل مسؤولية مشتركة لأجهزة عديدة، أعددنا خطة حكومية (549) وبدأنا تنفيذ برنامج ‘مسار آمن’ الذي طوّرت فكرته خلال سنوات عملي في الشرطة. شكّلنا طاقمًا مشتركًا يضم الشاباك، الشرطة، وزارة القضاء، وجهات أخرى. اجتمعنا أسبوعيًا، وبدأت النتائج بالظهور. كان انخفاض حالات القتل متوقعًا لأننا حددنا هدفًا ووفّرنا الأدوات المهنية".
لكن انهيار الحكومة غيّر كل شيء. إذ يقول سيغالوفيتش: "عندما تولت الحكومة الحالية السلطة، فكّك بن غفير كل البنى التي أقمناها. وأهمل الامر نهائيًا، كانت النتيجة الطبيعية انفجارًا غير مسبوق: من 103 قتلى عام 2022 إلى 224 عام 2023 و237 خلال 2024، والاتجاه في 2025 أسوأ".
- هل الانفجار نتيجة سياسة متعمّدة؟
في الشارع العربي ينتشر الاعتقاد بأن تصاعد الجريمة ليس صدفة، بل نتيجة سياسة مُدارة تهدف إلى تفكيك المجتمع العربي.
سيغالوفيتش يرد: "لا أستطيع القول إن هناك قرارًا سياسيًا مباشرًا. لكنني واثق من أن الحكومة الحالية غير مهتمة إطلاقًا بالجريمة في المجتمع العربي — لا بيبي مهتم، ولا بن غفير. عندما توقف الحكومة معالجة قضية ما وتجمّد كل الخطط، فإن الأمور تنفجر. وهذا ما حدث".
وعن النظرية التي تؤكد أن الأمر عبارة عن مشروع سياسي، يتجاوز الحكومة الحالية، ومستمر منذ سنوات، يقول سيغالوفيتش: "لا أعتقد أن أحدًا جلس وقرر السماح بتوسع الجريمة المنظمة، لا في هذه الحكومة ولا في سابقاتها. لكن هناك من قرر ألا يهتم. وهذا وحده يكفي لتفجّر المشكلة".
يواصل سيغالوفيتش: "ما زلت أتابع الموضوع كنائب معارضة في الكنيست، وأحاول أن أثير الحديث عنه في اللجان وفي الكنيست بشكل عام وأتواصل مع بعض رؤساء السلطات. في الماضي، كمنسّق حكومي، كنت على اتصال دائم بهم. اليوم لا توجد أي جهة حكومية تتواصل مع رؤساء السلطات العربية. عندما قُتل الطالب في كفر قرع داخل المدرسة، لم يحضر أي وزير أو مسؤول سياسي — فقط مدير عام وزارة التعليم. هذه رسالة واضحة: الحكومة غير مهتمة".
- تصنيف منظمات الجريمة كـ"منظمات إرهابية"
الشهر الماضي أُقرت في لجنة الوزراء للتشريع مسودة قانون تصنف منظمات الجريمة في المجتمع العربي كـ"منظمات إرهابية"، سيغالوفيتش يعارض هذا الاقتراح: "هذه ليست حلولًا. الإجراءات القصوى تُستخدم بعد استنفاد كل الخطوات المهنية. هذا مشابه للدعوات إلى إشراك الشاباك في مكافحة الجريمة. هذه مقاربات خاطئة ولا تحل المشكلة".
وعن الادعاء بأن رئيس الشاباك الجديد يدعم القانون: "بن غفير قال ذلك. أنا لا أصدق بن غفير ولا أبني مواقفي على تصريحاته. يجب تقييم رئيس الشاباك بحسب عمله لا بحسب خلفيته اليمينية أو خلفية والده، رئيس الشاباك صادقت المحكمة على تعيينه وأنا أثق بالمحكمة وبالتالي لا أحكم عليه مسبقًا، أحكم على عمله لاحقًا".
أزمة إنفاذ القانون: انخفاض معدلات كشف الجرائم
معدل كشف حالات القتل في المجتمع العربي ما زال منخفضًا جدًا وهذا يعتبر السبب المركزي بتكرار الجرائم، ففي معظم الجرائم، القاتل ينجو بفعلته. يقول سيغالوفيتش: "الشرطة بحاجة لأن تحسن عملها بلا شك، ولكن في النهاية هي تحتاج أدلة كي تتهم. لا يمكن تقديم متهمين بلا أدلة. التراشق بالمسؤولية بين الشرطة والنيابة والمحاكم يفاقم المشكلة. الحل يتطلب عملًا مشتركًا: الشرطة، الضرائب، النيابة، القضاء، والرقابة الاقتصادية على المنظمات الإجرامية".
ويؤكد: "لا يوجد حلّ سحري. المطلوب برنامج عابر للوزارات يشمل: مناطق صناعية في البلدات العربية، مشاريع ثقافية، دعم المدارس، واستثمارًا واسعًا في كل جوانب الحياة".
- لماذا تفشل الشرطة؟
يقول سيغالوفيتش: "هناك انعدام ثقة عميق بين المجتمع العربي والشرطة. هذا عامل مركزي. كما أن طبيعة الجرائم، هيكلية المنظمات، والثغرات القانونية — كلها تؤثر. الحل الحقيقي يبدأ بتغيير الحكومة، وبعمل مهني شامل يشارك فيه المجتمع العربي نفسه من خلال التصويت وتغيير الخارطة السياسية".
وردًا على الادعاء الذي يردد دائمًا في الاعلام وفي المحافل السياسية، بأن الجريمة ستصل إلى المجتمع اليهودي، يقول سيغالوفيتش: "هذه مقولة سخيفة وعنصرية. وهي تعني أنه يجب محاربة الجريمة فقط لأنها ستصل للمجتمع اليهودي، واسوأ ما في الأمر أن بعض السياسيين والناشطين العرب يرددونها أيضًا. ثم الحقيقة أن الجريمة وصلت بالفعل إلى المجتمع اليهودي. إطلاق النار في الخضيرة وغيرها مثال واضح. غياب سيادة القانون ينعكس على الجميع، ولكن يجب محاربة الظاهرة ليس لأنها قد تصل أو وصلت إلى اليهود، بل لأنه يجب محاربتها".
- هل يمكن استعادة الثقة؟
يختم سيغالوفيتش: "ثقة المجتمع العربي بالدولة انهارت. وفي المقابل، يشعر المجرمون أن القانون في أيديهم. إصلاح الوضع سيكون أصعب من الماضي، لكنّه ممكن. المؤسف أن الحكومة الحالية ورثت برامج جاهزة وفعّالة لكنها دمّرتها. لو استمرّت فيها، لحققت إنجازات كبيرة — ولصالحها هي".
المصدر:
بكرا