نتنياهو في الجنوب السوري رسائل متعددة العناوين والجبهات
أمير مخول
قام رئيس الوزراء الاسرائيلي يرافقه قائد الاركان ووزير الأمن بجولة في الاراضي السورية المحتلة عام 2024. فيما
أكدت مصادر في قيادة الجيش على الاهمية الاستراتيجية في بقاء القوات الاسرائيلية في المناطق التي احتلتها بعد سقوط
نظام الاسد. فيما أشارت القراءات الاسرائيلية الى القيمة الاستثنائية للجولة في هذه المناطق. في المقابل أثارت ردود فعل
دولية لدرجة تداولها في مجلس الامن.
تفيد العديد من التقديرات الاسرائيلية بأن جولة نتنياهو في جنوب سوريا انما تحمل رسائل متعددة الاتجاهات بما فيها الى
النظام السوري والى تركيا وروسيا وحتى الى واشنطن. كما أن العين الاسرائيلية لا تغفل لبنان. كما تشير قراءات معينة
الى ان جولة نتنياهو ومرافقيه انما تشكل ردا على الجولة الميدانية التي قام بها مؤخرا خبراء أمنيون من روسيا وتركيا
في الجنوب السوري، والحديث عن اقامة قوة حرس حدود سورية في المنطقة. فيما أتت جولة الوفد الأمني في اعقاب
المحادثات الروسية السورية بصدد العلاقة بين البلدين والمحادثات الثلاثية مع تركيا في هذا الصدد.
في المقابل تأتي الجولة الاحتلالية على خلفية زيارة الرئيس السوري احمد الشرع ووزير خارجيته الى واشنطن
والمحادثات مع ترامب ومسؤولي ادارته. يبدو ان هذا هو الحدث المركزي الذي يشكل سياق جولة نتنياهو وتظاهرة
الحضور السياسي الامني والإصرار على ترسيخ الوجود العسكري الاسرائيلي في المناطق المحتلة منذ 2024، والذي
بات يحمل دلائل احتلال مستدام وسيطرة كاملة بما فيه على مناحي اساسية من الحياة المدنية في هذه المناطق وتحت
مسمى حماية السوريين الدروز.
من دلالات الجولة ايضا هو الرفض الاسرائيلي لتدخل تركيا في تطبيق خطة ترامب وقرار مجلس الامن بانهاء الحرب
على غزة. اذ ان الاعتراض الاسرائيلي الحاد، يبدو سعياً لفرض نوع من المقايضة على تركيا، بأن تقوم على معادلة
التساهل الاسرائيلي في تدخل تركيا في غزة بمقدار التساهل التركي في تثبيت النفوذ الاسرائيلي في سوريا.
شكلت محادثات الشرع وترامب في واشنطن مصدر قلق اسرائيلي، وبالاساس نتيجة لمواقف ترامب الأقرب الى الموقف
التركي. يبدو ان هذا النوع من القلق الاسرئايلي تجاه ترامب هو من علامات المرحلة المستدامة القائمة على ان السياسة
الامريكية تلتزم بأمن اسرائيل لكنها لا تلتزم بأولويات اسرائيل. الموقف الامريكي وفقا لترامب يسير حسب اولويات
ادارته، وهي أبعد من حصرها في اولويات اسرائيل في سوريا او غزة او لبنان وحتى في ايران. الاولويات الامريكية هي
في هندسة نظام عالمي جديد يخدم المصالح الامريكية ويخضع لهيمنتها واستبعاد الصين وسعيا لدفع مصالح دول المنطقة
وحصريا الخليجية وتركيا ومصر بعيدا عن الصين لصالح الولايات المتحدة.
يراهن ترامب اقليميا على تركيا وعلى المحور التركي السوري القطري، ويسلّم بالنفوذ التركي في سوريا. بينما غيرت
اسرائيل استرتيجياتها في سوريا اكثر من مرة منذذ سقوط نظام الاسد. هذا الامر دليل ارتباك وتراجع نفوذ اسرائيليين.
فبعد ان راهنت على استراتيجية التدخل في سوريا من خلال "حماية الاقليات" وإضعاف النظام باعتباره مؤقتا، ثم انتقلت
الى رؤية مفادها بأن النظام ثابت حتى ولو تمت الاطاحة بالشرع وعليه فإن الاستراتيجية هي اعتماد النظام ليكون قويا
للداخل ويحكم بشكل مركزي لكن ضعيفا امام اسرائيل ومطامعها. حاليا فإن الرهان على انضمام النظام الى الاتفاقات
الابراهيمية بات مستبعدا في المدى القريب وحصريا بسبب الاعتراض التركي الحازم، كما ان رهان التطبيع غير ممكن
نظرا لبقاء الاحتلال الاسرائيلي الجديد واستحقاقات التطبيع بما فيها انسحاب اسرائيل من الجولان المحتل منذ العام
1967. فيما لم تكن هذه المسألة اولوية حقيقية لواشنطن مؤخرا وذلك نظرا لتعذر احتمالية التطبيع، ليبقى المجال مفتوحا
لاتفاق أمني برعاية امريكية وبرقابة امريكية من خلال القاعدة العسكرية التي تقيمها في العاصمة دمشق على غرار
القاعدة في بلدة كريات غات في النقب لمراقبة انهاء الحرب في غزة. منظومات الرقابة الامريكية العسكرية سواء في غزة
ام سوريا باتت تقلق الحلبة السياسية الاسرائيلية لكونها ايضا تضبط ايقاع السلوك الاسرائيلي.
راهنت اسرائيل على الدور المحوري للنظام السوري الجديد في الملف اللبناني، وعلى ان سوريا برئاسة الشرع ستشكل
حاجزا للنفوذ الايراني في لبنان وللدعم العسكري لحزب الله وفقا للقراءة الاسرائيلية، في المقابل يؤكد النظام السوري بأنه
يقوم فعليا بهذا الدور. فيما راهنت حكومة نتنياهو ايضا على ان محاصرة حزب الله ونزع سلاحه ستتم من خلال دفع
سوريا للاشتباك معه والتدخل العسكري في لبنان في هذا الصدد، وهو ما لم تقبل به الاخيرة. هذا الرفض السوري قد
يكون دافعا للتصعيد الاسرائيلي العسكري في لبنان لدرجة حرب من طرف واحد. كما ترى التقديرات الاسرائيلية بأن
الظرف الميداني والتفوق الحربي يتيحان لها تكثيف الحرب واستهداف السيادة اللبنانية كي تنصاع للشروط الاسرائيلية
وبذلك دفع واشنطن للضغط على لبنان وعلى سوريا على السواء.
في الصورة الاقليمية والدولية تشهد اسرائيل تراجعا جوهريا في نفوذها وأثرها، في معظمه يعود الى الحرب على غزة،
لكنه يعود كذلك الى التغير في المعادلات الامريكية. أحد تجليات هذا التغير الاكثر جوهرية هو قمة ترامب بن سلمان
واعتماد الولايات المتحدة للمملكة العربية السعودية حليفا استراتيجيا مفضلا من خارج حلف الناتو كما هي وضعية
اسرائيل. فعليا لم تعد اسرائيل قلقة من انتهاء احتكار اولويتها في نظر الادارة الامريكية، بل تنافسها المملكة العربية
السعودية في ذلك. في المقابل فإن تركيا هي عضو مركزي وقوي في الناتو وتعتمده الولايات المتحدة في المعادلات
الاقليمية والشرق اوروبية والدولية.
الجولة التظاهرية لنتنياهو في الجنوب السوري انما تندرج في مسعى قد يكون ميؤوسا منه لبعثرة الاوراق من جديد
ولاعادة الاعتبار للاولويات الاسرائيلية في نظر الولايات المتحدة. يندرج في هذا السياق تصريح رئيس الوزراء
الاسرائيلي بأن الحرب متعددة الجبهات لم تنته ومهددا بتعاظمها، مع التقدير بأن هذه التهديدات تخدم سياسته الخارجية
والداخلية وليست بالضرورة للتنفيذ. في هذا السياق ايضا فإن التصعيد الحربي والانتهاكات الاسرائيلية لقرار مجلس الامن
في غزة انما تندرج في السعي لتغيير الاولويات الامريكية ولاستعادة اسرائيل لوزنها الاقليمي والدولي المتراجع.
داخليا تتعاظم المطالبة بتعيين لجنة تحقيق رسمية في اخفاق 7 اكتوبر 2023 وفي ادارة الحرب على غزة. كما تتزامن
هذه الحراكات مع دخول الحلبة السياسية عام الانتخابات للكنيست. فيما اصدرت المحكمة العليا يوم 19/11 أمرا احترازيا
يطالب الحكومة بتوضيح تفصيلي للامتناعها لغاية اللحظة عن تعيين لجنة تحقيق رسمية. هذه اللجنة في حال قيامها قد
تعصف بالحكومة وتعيد جدول اعمال الانتخابات الى السابع من اكتوبر وهو نقيض ما يرمي له نتنياهو. يسعى الاخير الى
تجاوز هذه العقبة الكأداء اما من خلال تعيين لجنة تحقيق حكومية محدودة الصلاحيات؛ او من خلال ما يشي به تصريحه
بأن الحرب متعددة الجبهات لم تنته، وهذا يتماشى مع محاججته بأن لجنة تحقيق تقام فقط بعد انتهاء الحرب وليس خلالها،
بما يعني ان استمرار حكمه مبرّر وجيه في تصعيد التوترات الاقليمية.
في الخلاصة، تسعى الحكومة الاسرائيلية الى بعثرة الاوراق اقليميا والتصعيد الحربي من اجل استعادة موقعها المتراجع
اقليميا ودوليا. فيما القلق الاسرائيلي من اولويات ادارة ترامب هو قلق حقيقي لكون التطورات تتسارع في اتجاهات مستقلة
تماما عن الاولويات الاسرائيلية وحصريا لانكفاء دورها. بينما تشير جولة نتنياهو في الجنوب السوري الى تعاظم النفوذ
التركي برغبة واشنطن وبخلاف نوايا اسرائيل، والى انسداد الطريق امام المساعي التي تراهن على التطبيع دونما
استحقاقاته منها.
في المقابل فإن التصعيد الحربي في لبنان وغزة يندرج في المساعي لاستعادة محورية الدور الاسرائيلي، وفيه رسالة
لادارة ترامب بعدم المضي في أولوياته التي تضعف دور اسرائيل، فيما لا تبدو هذه التحركات بقادرة على تغيير
المسارات الاقليمية. فيما تتعاظم محورية قضية فلسطين وضروة حلها، بخلاف تام للاولويات الاسرائيلية.
(مركز تقدم للسياسات)
المصدر:
كل العرب