الفصل الأول: كانت رائحة التين المجفف والزعتر تخنقها. لا، لم تكن تخنقها من شدة رائحتها الطيبة التي تملأ كل بيت فلسطيني، بل كانت تخنقها بثقل الذكريات التي تحملها. على بعد آلاف الكيلومترات، في مطبخها السويدي ذو الألوان الباردة والخشب الفاتح،
مصدر الصورة
كانت الأم، التي تدعى جورجيت، تمسك بقطعة تين مجففة أرسلتها لها أختها من الناصرة. كانت قطعة التين تلك أقرب ما يكون إلى فلسطين بالنسبة لها الآن.
تنهدت جورجيت تنهيدة عميقة، حبست فيها غصة لم تغادر حلقها منذ عقود. كان زوجها راسم، جالسًا في الصالة يشاهد الأخبار على شاشة التلفاز المسطحة، لكن عيناه كانتا غائبتين، تنظران إلى ما وراء الشاشة، إلى ذكريات لم يشاركها فيها أحد سواه. هو حارس الجمرة، وهي الذاكرة الحية. وكلاهما يحترق ببطء.
على الطاولة في المطبخ، كان هاتف الابن الأكبر الياس، يهتز برسائل متتالية من زملائه السويديين. الياس كان قد تجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أصبح مهندسًا مرموقًا في شركة سويدية عملاقة، يتحدث السويدية بطلاقة تفوق العربية التي أصبحت ثقيلة على لسانه. نظر إلى أمه وهي تحمل قطعة التين، وبدت له كأنها تحمل قطعة من الماضي السحيق الذي لا يفهمه. هو لا يذكر رائحة التين الطازج في بساتين الناصرة، فقط حكايات أمه عنها.
تجاهل الياس رسائل العمل ثوان معدودة، وتذكر فجأة، وبمرارة، اللحظة التي سبقت كل هذا. لم تكن مجرد رائحة تين أو أخبار حرب بعيدة. كانت تلك اللحظة التي دخل فيها والده، راسم، إلى البيت في الناصرة قبل سنوات طويلة، وجهه شاحب، وعيناه تحملان خليطًا من الغضب واليأس.
كان الياس حينها في السابعة عشرة من عمره، متفوقًا، يحلم بدراسة الهندسة في التخنيون. لكن حلمًا واحدًا فقط كان يراوده ويشغله: القبول في التخنيون.
تلك الأيام، كانت الحياة في فلسطين معقدة، خانقة. الاحتلال يرمي بظلاله الثقيلة على كل زاوية من زوايا الحياة. عنصرية واضحة، عدم مساواة، وفرص عمل وتعليم قليلة تكاد تكون معدومة. الناس كانوا يعملون المستحيل كي لا يغادروا وطنهم الذي وُلدوا فيه وعشقوا ترابه، لكن عندما يصل الأمر إلى أن الأولاد لا يمتلكون فرصة للتعلم، عندها تتغير الموازين.
تذكر الياس الكلمات التي قالها والده بصوتٍ بالكاد مسموع في ذلك اليوم المشؤوم، وكأنهم يتكلمون مع أشخاص قلوبهم متحجرة كالصخر لقد رُفض الياس من الجامعة. مرة أخرى. يقولون الأماكن محدودة... لكننا نعلم السبب الحقيقي. لأنه عربي.
وفي تلك اللحظة، تحول حلم الياس إلى رماد. وتحولت حياة العائلة كلها. أدرك راسم أنه لا يمكنه أن يرى أولاده بلا مستقبل. غضبه المكبوت انفجر في قرار واحد: الهجرة. لا أحد يفضل أن يعيش ويموت في الغربة. لكن الغضب كان يحرق صدره، فكر قليلاً وقال: حماية الأولاد من أهم الأولويات في حياتي.
تواصل الأب مع أخيه الذي سبقه إلى السويد، ووجد لديه العون. لم تكن رحلة سهلة، لكنها كانت محاولة أخيرة لانتزاع بصيص أمل من براثن اليأس.
الآن، وبعد عقود، كانت الأم تنظر إلى الياس وتراه غارقًا في عالمه السويدي، لكن في أعماق قلبها أدركت بأنها هي وزوجها لن يدفنا في تراب فلسطين الذي يحبانه. كانت الوصية الصامتة، التي لم تُقل صراحة في حياتهما ولكنها تتردد في كل نبضة قلب لديهما، هي: لا تنسوا فلسطين.
كانت وصية الأم هذه، التي تتكرر في كل مناسبة، أو في كل مرة تحاول فيها أن تروي قصة عن الوطن، بمثابة جرس إنذار خفي لأولادها. الياس وإخوته الأصغر منه، سامي وجمال ويوسف الذين لم يعودوا يتذكرون من فلسطين شيئًا سوى اسمها الذي يسمعونه في نشرات الأخبار أو من حكايات والديهم التي بدت لهم كأنها من زمن غابر. هذا الجرس كان يدق في صمت، محاولًا إيقاظ ذاكرة لم تتشكل لديهم بعد.
الفصل الثاني
قرر راسم أن يذهب وحده أولًا. لم يكن هذا القرار نابعًا من تهور، بل من حسابات دقيقة لرجلٍ يعرف ثقل المسؤولية. كيف يمكنه أن يدفع زوجته جورجيت وأبناءه الأربعة إلى المجهول، إلى بلد لا يعرفون عنه شيئًا سوى برودته ومساحاته الشاسعة؟ لا، كان عليه أن يمهد الأرض لهم.
كانت اللحظة التي ودعت فيها عائلته فلسطين من أصعب لحظات حياته. عناق جورجيت التي كانت عيناها تتساءلان بصمت عن مستقبلهم، ونظرة الياس الأكبر التي تحمل مزيجًا من الأمل الخجول والمرارة المكبوتة. وعدهم بالعودة سريعًا لأخذهم، لكن قلبه كان يعلم أن هذه الرحلة بلا عودة حقيقية.
وصل راسم إلى السويد في ليلة شتوية حالكة. استقبله أخوه، الذي كان قد سبقه بسنوات، في مطار ستوكهولم. كان الهواء باردًا، يحمل معه رائحة غريبة لم يعتدها، وبرودة قاسية اخترقت عظامه فور خروجه من المبنى الدافئ. رأى الثلج للمرة الأولى يتساقط بغزارة، يكسو كل شيء ببياض ناصع، لكنه لم يكن بياضًا يبعث على البهجة، بل شعور بالعزلة.
تلك الأيام الأولى كانت أشبه بالصراع الصامت. اللغة السويدية بدت له كرموز غريبة، كلمات تخرج من أفواه الناس بسرعة لا يستطيع أن يلاحقها. حاول جاهدًا تعلمها في دورات مسائية بعد أن أمضى أيامه في البحث عن عمل. عمل في البداية في وظائف متواضعة، غسّال صحون في مطعم، عامل نظافة في شركة، أي شيء يدرّ عليه مالًا ليؤمن مستقبله ومستقبل عائلته.
كان أخوه سندًا له، يقدم له المشورة، يساعده في الأوراق الرسمية المعقدة، ويدعمه معنويًا. لكن حتى هذا الدعم لم يمنع راسم من الشعور بوحدة عميقة. لياليه كانت طويلة، يرى فيها وجوه أبنائه، ويسمع ضحكاتهم، ويشعر بحرارة شمس فلسطين. كان يختنق أحيانًا برغبة عارمة في العودة، لكن صورة الياس وهو يُرفض من الجامعة، ووعوده لعائلته، كانت أقوى من أي حنين.
كانت السويد بلدًا منظمًا، هادئًا، يوفر الأمان والفرص. لكنها كانت أيضًا باردة، ليس فقط في مناخها، بل في طريقة تفاعل الناس. الابتسامات الخجولة، المسافات الشخصية، غياب الصخب الذي كان يملأ شوارع الناصرة. بدأ يدرك أن هذا "المكسب" الذي يوفره هذا الوطن الجديد، سيأتي بثمن باهظ جدًا.
وبعد أشهر طويلة من الكفاح، وبعد أن "استتب به المقام" كما كان يقول لنفسه، وجد راسم عملاً مستقرًا وبيتًا صغيرًا. حان الوقت لخطوته التالية، الخطوة التي ستغير حياة عائلته إلى الأبد.
الفصل الثالث
بدأت حياة العائلة الجديدة في السويد تتكشف فصولها، فصلًا بعد فصل، وكل فصل يحمل تحدياته ومفاجآته. بينما كان راسم غارقًا في عمله الجديد ومحاولاته المستمرة لتعلم اللغة وتأمين مستقبل العائلة، وجورجيت تكافح بصمت مع وحدتها وحنينها، كان الأبناء الأربعة يشرعون في رحلة الاندماج التي ستغيرهم إلى الأبد.
الياس الابن الأكبر، واجه الصعوبة الكبرى. في السابعة عشرة من عمره، كان قد تكونت لديه ذكريات راسخة عن فلسطين، عن أصدقائه، عن شوارع الناصرة، وعن الحلم الذي تحطم. اللغة السويدية بدت له كجدار سميك، يرفض أن يلين. كان يشعر بالضيق في المدرسة، لا يفهم الكثير، ويجد صعوبة في الانخراط مع زملائه الأصغر منه سنًا. غالبًا ما كان يختبئ في صمته، يراقب العالم من حوله بمرارة خفية، بينما يندفع إخوته الصغار إلى هذا العالم الجديد بلا تردد. ورغم التحديات، كان يدفعه إصرار والده وصورته وهو يُرفض من الجامعة؛ كان عليه أن ينجح ليثبت أن التضحية لم تذهب سدى.
أما سامي، الابن الثاني الذي كان في الحادية عشرة من عمره، فقد أظهر مرونة مدهشة. عقله الشاب كان كإسفنجة، يمتص اللغة السويدية بلهفة. في غضون أشهر، أصبح يتحدث بطلاقة تكفي ليكون مترجم العائلة في زيارات الطبيب، أو في المعاملات البسيطة. كان يتأقلم بسرعة مع أقرانه السويديين، يشاركهم ألعابهم واهتماماتهم، لكنه كان يشعر بمسؤولية غير معلنة تجاه والديه. غالبًا ما كان يجد نفسه عالقًا بين عالمين: دفء وطقوس منزله الفلسطيني، وحداثة وبرودة المدرسة والمجتمع السويدي. كان يحاول أن يكون ابنًا صالحًا لوالديه، وفي الوقت نفسه طفلًا سويديًا مندمجًا، وهو توازن دقيق ومُرهق.
جمال، الابن الثالث لم يكن يذكر شيئًا يُذكر عن الناصرة. وصل إلى السويد وهو في الخامسة من عمره، لذا كانت السويد هي عالمه الأول والأخير. تعلم السويدية كأول لغة له، وكانت العربية مجرد كلمات متقطعة يسمعها من والديه في المنزل. في المدرسة، كان متفوقًا، محبوبًا من معلميه وأصدقائه. كان يندمج تمامًا في الثقافة السويدية، لا يفهم تمامًا لماذا يتحدث والداه عن "الوطن" بهذا الشجن العميق. بالنسبة له، كان الوطن حيث الأمان، حيث الفرص، وحيث أصدقائه.
أما يوسف، الابن الرابع والأصغر فكان رضيعًا عندما وصلت العائلة. لم يكن لديه أي ارتباط مادي أو حسي بفلسطين. كبر وهو سويدي تمامًا، يتحدث السويدية بطلاقة كاملة، ولم يتعلم العربية إلا كلمات قليلة بالكاد يستخدمها. بالنسبة له، "فلسطين" كانت مجرد اسم يُذكر في حكايات قديمة لوالديه، أو كعنوان لأخبار مزعجة في التلفاز. لم يشعر قط بأي حنين، ولا بأي مسؤولية تجاه هذه الجذور البعيدة. كان يوسف يجسد، من دون أن يدري، أكبر مخاوف جورجيت وراسم الانصهار التام في ثقافة جديدة، وفقدان الذاكرة التي كافحوا للحفاظ عليها.
مع مرور السنوات، اتسعت الفجوة بين الأجيال. أصبح الأبناء، خاصة الأصغر، ينظرون إلى حنين والديهم على أنه نوع من "الحزن القديم" الذي لا يفهمونه الأم جورجيت استمرت في محاولاتها اليائسة لربطهم بالوطن.: تطبخ المأكولات الفلسطينية الأصيلة، تحكي القصص، تحاول تعليمهم الأغاني. لكن كل محاولاتها كانت تصطدم بجدار من اللامبالاة أحيانًا، أو الاهتمام المقتضب أحيانًا أخرى. كانت تشعر أن "جرس الإنذار" الذي يدق في قلبها، لا يسمعه أبناؤها إلا كصدى بعيد.
الفصل الرابع
كانت الأيام الأخيرة لـجورجيت ثقيلة، يلفها هدوءٌ لم يعتدْه أهل البيت. بعد عقود في السويد، وبعد أن شاهدت أبناءها يكبرون وينصهرون في أرض الثلج، كان جسدها المتعب قد بدأ يستسلم. تجمع أبناؤها الأربعة حول سريرها، وجوههم تحمل قلقًا لم يعتادوا عليه. الياس بصلابته الظاهرة ومرارته المكبوتة، كان يمسك بيدها. سامي كان يحاول تهدئة الأجواء. جمال كان ينظر بوجل، بينما يوسف كان يقف على مسافة، يشعر بالارتباك أمام هذا المشهد الذي لم يألفه.
كانت عينا جورجيت اللتان رأتا الكثير من الألم والفراق، تتنقلان بين وجوه أبنائها. لم تكن الكلمات تخرج بسهولة، فقد أنهكتها سنوات الغربة وعبء الذاكرة الذي حملته وحدها. استجمعت آخر ما تبقى لها من قوة، وبتعب واضح، لكن بنبرة تحمل كل ثقل السنين، همست:
يا أولادي... عشتُ هنا سنين... رأيتكم تكبرون... وتنجحون... وهذا كان كل أملي. توقفت لتأخذ نفسًا عميقًا، ثم واصلت، وعيناها تحدقان في الفراغ، كأنها ترى الناصرة أمامها: لكن... لا تنسوا... لا تنسوا فلسطين..
تكررت الكلمات هامسة، ضعيفة، لكنها اخترقت صمت الغرفة كجرس إنذارٍ حادٍ. لا تنسوا... فلسطين... يا أولادي... وطنكم... جذوركم..
لم يجرؤ أحد على الرد. كانت وصيتها الأخيرة، وصية الأم التي طالما حاولت أن تُبقي شعلة الذاكرة مشتعلة في قلوبهم، حتى لو كانت تواجه جدرانًا من اللامبالاة. بعد لحظات قليلة، سكن جسدها. رحلت جورجيت تاركة خلفها أبناءها الأربعة، ومهمة ثقيلة لا يعلمون كيف يحملونها.
مرت أسابيع على وفاة جورجيت الحزن خيّم على البيت، لكن وصيتها ظلت تتردد في آذان الأبناء، خاصة الياس الذي فهم أبعادها بعمق. أما الصغار، فقد بدأت الكلمات تثير فضولهم بشكل مختلف.
في إحدى الليالي، بينما كان أحد أحفاد جورجيت جورج الذي كان في أواخر سن المراهقة ويتمتع بفضول طبيعي تجاه العالم، يتصفح الإنترنت بلا هدف، توقف فجأة. كان قد سمع جدته الراحلة تهمس بكلمة "فلسطين" مرارًا، وسمع والده وأعمامه يتحدثون عنها أحيانًا بنبرة ثقيلة. دفعه فضول عابر، بعيدًا عن أي شعور بالانتماء، لكتابة "فلسطين" في محرك البحث جوجل.
لم يكن يتوقع ما رآه. لم تكن مجرد صور حرب أو أخبار سياسية معقدة. ظهرت أمامه صور لجبال خضراء تغطيها أشجار الزيتون المعمرة، وسهول تزهو بالورود البرية، وبحر أزرق صافٍ. رأى صورًا لمدن تاريخية قديمة، وأسواق صاخبة مليئة بالألوان والروائح. مقاطع فيديو قصيرة تُظهر عجمية تتدفق منها المياه، ورجالًا يجلسون في مقاهٍ شعبية، وأصوات ضحكات عالية.
نقرة أخرى، قادته إلى صور لأنواع من الطعام لم يرها من قبل، لكنه شعر بشيء من الألفة تجاهها من حكايات جدته: المقلوبة، المنسف، الكنافة. كانت الألوان والنكهات تبدو حية على الشاشة، تناقض تمامًا الوجبات السويدية المنظمة والباردة التي اعتاد عليها.
المدهش حقًا كان ما رآه في الصور ومقاطع الفيديو العائلية. عائلات كبيرة مجتمعة في ساحات البيوت، يضحكون بصوت عالٍ، يحتضنون بعضهم البعض، أطفال يركضون بحرية، وشعور كثيف بـالترابط والدفء يغمر المشهد. هذا الترابط لم يكن موجودًا بنفس الكثافة في بلادهم الباردة، حيث تفضل العائلات المساحات الشخصية، والتجمعات الهادئة.
شعر جورج بشيء من الراحة الغريبة، وكأن جزءًا منه قد وجد مكانه في هذه الصور. كان هذا العالم مختلفًا تمامًا عن عالمه في السويد، لكنه كان مثيرًا للاهتمام بشكل لا يصدق. كانت هذه "فلسطين" التي لم تكن سوى اسم بالنسبة له، قد بدأت تكتسب ملامح، ألوانًا، وأصواتًا. وبدأ يدرك أن وصية جدته لم تكن مجرد كلمة، بل كانت دعوة إلى اكتشاف جزء مفقود من روحه.
الفصل الخامس
بعد تلك الليلة التي قضاها جورج مع محرك البحث، لم تعد فلسطين مجرد اسم مبهم. أصبحت لغزًا يثير فضوله، كنزًا مخفيًا خلف شاشة حاسوبه. لم يشارك اكتشافه هذا مع أحد، لا مع والديه ولا مع أعمامه، ولا حتى مع إخوته. أراد أن يحتفظ بهذا السر لنفسه قليلًا، ليغوص فيه بعمق أكبر، ربما كان يشعر بمسؤولية غير معلنة تجاه وصية جدته الراحلة.
في الأيام والأسابيع التالية، أصبح حاسوب جورج رفيقه الصامت. كلما سنحت له الفرصة، بعد واجباته المدرسية أو في ساعات الليل المتأخرة، كان يعود إلى عالمه السري. لم يعد يكتفي بالبحث عن صور الطبيعة أو الطعام. بدأ يتتبع أسماء المدن التي كانت جدته تذكرها في حكاياتها: الناصرة، القدس، يافا. شاهد مقاطع فيديو وثائقية قصيرة، قرأ مقالات بسيطة عن تاريخ المنطقة وثقافتها.
اكتشف أن "فلسطين" ليست مجرد بؤرة صراع سياسي كما تصورها من الأخبار، بل هي أرض ذات تاريخ عريق، حضارات متعاقبة، وناس يحبون الحياة، ويعتزون بأرضهم، ويتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم. بدأ يجمع صورًا وفيديوهات: صور لبيوت حجرية قديمة ذات أقواس جميلة، وجدران تزينها ورود ملونة. فيديوهات لأفراح شعبية صاخبة، لدبكات تُثير الغبار، ولأغانٍ شرقية لم يسمع مثلها من قبل.
كان يتوقف طويلاً عند صور العائلات الكبيرة المتجمعة. يراقب وجوههم المبتسمة، كبار السن يجلسون بوقار، والأطفال يلهون حولهم. شعر بدفء غريب ينبعث من تلك الصور، دفء لم يعتده في لقاءات عائلته المحدودة في السويد. كان هناك شيء ما في تلك الوجوه، في تلك الضحكات، في تلك الترابطات، يجذب روحه ويجعله يشعر براحة غير مفهومة.
كانت هذه المعلومات تتراكم في ذهنه، وتُشكل صورة جديدة تمامًا عن جذوره. لم يكن الأمر يتعلق بالسياسة أو الألم فقط، بل كان يتعلق بالجمال، بالحياة، وبالانتماء البشري العميق. شعر كأنه يكتشف جزءًا مفقودًا من نفسه، جزءًا لم يدرك وجوده من قبل.
وعندما شعر أنه جمع كنزًا كافيًا، وعندما بدأ الفضول يتحول إلى رغبة ملحة في مشاركة هذا الاكتشاف، قرر جورج أن يفاجئ إخوته. أراد أن يرى رد فعلهم، وهل ستدوي في آذانهم أيضًا همسة جدتهم الراحلة "لا تنسوا فلسطين" كما دوت في أعماق روحه؟
الفصل السادس
في إحدى ليالي عطلة نهاية الأسبوع، حين اجتمع الأشقاء الأربعة وعائلاتهم في منزل راسم كعادتهم، كانت الأجواء هادئة نسبيًا. الأبناء، الياس سامي، جميل، ويوسف، كانوا يتحدثون عن العمل، وعن شؤون حياتهم السويدية، بينما الأطفال يلهون في زاوية أخرى. كان راسم يراقبهم بصمت، حنينه إلى الماضي يثقل روحه بعد رحيل جورجيت الأم التي كانت "ذاكرة" البيت.
فجأة، قاطع جورج الصمت. كان يحمل حاسوبه المحمول، وعلى وجهه مزيج من الترقب والحماس. "أعمامي... أبي... أريد أن أريكم شيئًا." قالها بنبرة ليست مألوفة، مما لفت انتباه الجميع.
نظر إليه جميل، والده، ببعض الدهشة. كان جورج عادةً منغمسًا في عالمه الخاص، ولم يكن كثير الكلام حول أشياء تهمه. ما الأمر يا جورج؟ هل هناك مشروع مدرسي جديد؟ سأل جميل.
لم يجب جورج. وضع الحاسوب على الطاولة في المنتصف، ووصله بالشاشة الكبيرة في الصالة. عمت لحظة من الفضول الممزوج باللامبالاة بين الحاضرين. الياس الأكبر، كان يقلب هاتفه. سامي رفع حاجبيه باهتمام خفيف. يوسف، الأصغر، بالكاد انتبه.
ضغط جورج على زر التشغيل.
ظهرت على الشاشة صورة بانورامية لجبال خضراء تطل على بيوت حجرية قديمة، وشمس ذهبية تغمر المشهد بدفء غير مألوف في السويد. تبعتها صور لأشجار زيتون معمرة، وسهول مليئة بالورود البرية الملونة. مقاطع فيديو قصيرة (عين ماء) تتدفق منها المياه الصافية، ولأناس يجلسون في مقاهي شعبية يتبادلون الضحكات الصاخبة.
بدأ صوت جدتهم جورجيت يتردد في أذهانهم جميعًا، وصيتها الأخيرة "لا تنسوا فلسطين". ولكن ما كان جورج يعرضه، لم يكن مجرد قصص حزينة أو أخبارًا سياسية. كان جمالًا خالصًا، حياة نابضة.
ثم عرض صور الطعام: المقلوبة البخارية، صحون المنسف المليئة باللحم والأرز، والكنافة الذهبية التي تذوب في الفم. جدتي كانت تتحدث عن هذه الأكلات دائمًا، أليس كذلك؟
قال جورج، وعيناه تلمعان.
لكن الصدمة الحقيقية جاءت مع مقاطع الفيديو التي تُظهر العائلات المترابطة. عشرات الأشخاص مجتمعين في ساحات البيوت، يضحكون، يرقصون الدبكة، يتعانقون بحرارة، والأطفال يركضون ويصرخون في بهجة. كان هناك شعور كثيف بالانتماء، بالدفء البشري الذي يختلف كليًا عن البرودة والمسافات الشخصية التي اعتادوا عليها في السويد.
خيم الصمت على الغرفة. كانت الوجوه المتجهمة قليلاً من قبل قد تحولت إلى تعابير دهشة. الياس كان يحدق في الشاشة، بدا وكأنه يستعيد شيئًا مفقودًا من ذاكرته. سامي مال إلى الأمام، وعيناه تتبعان كل صورة وكل فيديو باهتمام بالغ. جمال والد جورج، نظر إلى ابنه بفخر غير متوقع. حتى يوسف، الأصغر والأكثر سويدية، بدا وكأنه يتأثر بالمشهد، ربما للمرة الأولى.
جورج لم يكن قد قال شيئًا كثيرًا، لكن الصور والفيديوهات كانت تتحدث بوضوح. لقد كسر الجدار. لقد أظهر لهم جزءًا من فلسطين لم يكونوا يعرفونه، جزءًا لم تعد جدتهم جورجيت تستطع أن ترويه.
رفع جورج رأسه ونظر إلى أعمامه ووالده. هذه فلسطين... هذه هي... الناصرة. قالها وكأنها اكتشاف شخصي عظيم.
هل... هل يمكننا أن نذهب إلى هناك يومًا ما؟
الفصل السابع
ساد صمتٌ ثقيل الغرفة بعد سؤال جورج. لم يكن أحد يتوقع هذا الاقتراح من الحفيد الذي بدا دائمًا الأكثر ابتعادًا عن جذورهم. راسم الجد، كان يحدق في الشاشة كأنها شاشة سحرية أعادت إليه جزءًا من روحه. الياس الابن الأكبر، الذي كان يُصارع مرارته المكبوتة طويلاً، شعر بوخز غريب في قلبه. هل يمكن أن يكون هذا الشاب، الذي بالكاد يتحدث العربية، هو من يعيد إحياء الوصية التي لم يتمكن هو نفسه من حملها بالكامل؟
كان سامي أول من نطق. نذهب إلى فلسطين؟ قالها بنبرة تساؤل أكثر منها استنكار. هذا... هذا لم يخطر ببالي قط.
جمال والد جورج، كان ينظر لابنه بمزيج من الفخر والحيرة. يا جورج الأمر ليس بهذه السهولة. فلسطين... الوضع هناك معقد. وهل لديك فكرة عن كيفية الدخول؟
رد جورج ببعض الهدوء الذي ورثه عن جده، وكأنه استعد لهذه اللحظة. لقد بحثت. بجوازات سفرنا السويدية، الأمر ممكن. هناك سفارات ومنظمات يمكن أن تساعد. والكثير من الناس يزورونها. ثم أضاف، بنبرة أكثر جدية: جدتي أوصّتنا. ألا تتذكرون؟ لا تنسوا فلسطين.
ارتعش قلب راسم عند سماع وصية جورجيت تخرج من حفيده. نظر إلى أبنائه الأربعة، ثم إلى أحفاده، وكأن بصيص أمل أضاء ظلمة السنين. لم يكن يحلم بعودة، لكنه ربما كان يحلم بأن لا تُنسى الأرض التي ضحى من أجلها.
بدأت نقاشات حادة، لكنها كانت مختلفة عن أي نقاش سابق. هذه المرة، لم تكن مجرد شكوى من الماضي، بل كانت تتجه نحو إمكانية فعل شيء.
الياس رغم تشككه، بدأ يرى الأمر كفرصة لإعادة اكتشاف جزء من نفسه. سامي، الذي طالما كان جسرًا، رأى في هذه الرحلة فرصة لتوحيد العائلة، وربما شفاء بعض الجراح القديمة. جمال رغم تحفظاته، لم يستطع إنكار الحماس في عين ابنه، ووجد نفسه يميل نحو دعم الفكرة. أما يوسف، الأصغر والأكثر سويدية، فقد كان لا يزال متشككًا، لكن فضول إخوته بدأ يثير اهتمامه ولو قليلاً.
تحول النقاش إلى تخطيط. بدأ جورج بمشاركة المزيد من المعلومات التي جمعها. تحديات السفر، أماكن الإقامة، طرق التنقل. كانت كل معلومة يلقيها، وكل صورة يعرضها، تبني جسرًا خفيًا بين هذا الجيل الجديد وبين الأرض التي لم يعرفوها إلا من الحكايات.
كان راسم يتابع بصمت، يتذكر رحلته الأولى وحيدًا إلى السويد، والآن يرى أحفاده يخططون لرحلة معاكسة إلى وطنه. لم يكن يعرف ما إذا كان هذا حلمًا أم حقيقة، لكنه شعر بدفء خفيف لم يشعر به منذ زمن طويل.
الفصل الثامن
تحول منزل راسم الهادئ إلى خلية نحل من النشاط. كانت صور فلسطين، التي جمعها جورج، تملأ شاشة الكمبيوتر في كل زاوية، بينما تتبعثر الأوراق والمستندات على الطاولات. لم يكن الأمر سهلاً. رغم أن جوازات السفر السويدية فتحت لهم الأبواب، إلا أن ترتيبات الرحلة كانت معقدة. حجوزات الطيران، ترتيبات الإقامة مع أقارب لم يلتقوا بهم قط، التنسيق مع منظمات محلية لضمان مرور آمن، كلها كانت تحديات لم يعتادوا عليها في حياتهم السويدية المنظمة.
الياس الابن الأكبر، وجد نفسه يقود عملية التخطيط العملي، مستفيدًا من مهاراته الهندسية في تنظيم التفاصيل. كان يجد في ذلك نوعًا من التصالح مع مرارته القديمة. سامي كان حلقة الوصل العاطفية، يهتم بتهدئة قلق والده، ويشجع إخوته الأصغر منه. أما جمال، والد جورج، فقد شعر بفخر غامر بابنه الذي أيقظ فيهم جميعًا شيئًا كانوا قد دفنوه عميقًا. حتى يوسف، الأصغر بدأ يظهر اهتمامًا حقيقيًا. لم يعد الأمر مجرد حكايات جدتي، بل أصبح رحلة ملموسة.
كان راسم يراقب كل ذلك بقلب يكاد ينفطر بين الفرح والألم. الفرح برؤية هذه الشرارة تشتعل في أحفاده، والألم لأنه هو وجورجيت لن يتمكنا من العودة أبدًا. كان يشاركهم الذكريات، يُعطيهم النصائح، ويصف لهم الأماكن بأدق تفاصيلها، وكأنه يسافر معهم بروحه. كان يشعر أن وصية جورجيت التي همست بها في أنفاسها الأخيرة، بدأت تُثمر.
جاء يوم المغادرة. في مطار ستوكهولم، كان الوداع مختلفًا هذه المرة. لم يكن هناك حزن فراق، بل ترقب وأمل. الأبناء الأربعة، مع بعض من أحفادهم (خاصة جورج)، كانوا يقفون عند بوابة المغادرة. كانت وجوههم تحمل مزيجًا من الحماس والقلق. هم على وشك عبور جسر ليس فقط جغرافيًا، بل جسرًا زمنيًا يربطهم بجذورهم البعيدة.
رفع الياس جواز سفره السويدي، نظر إليه ثم إلى عيني والده راسم الواقفتين تتابعانهم بصمت. تذكر كل ما مروا به، الثمن الذي دفعوه. هذه المرة، لم يكن السفر هروبًا، بل كان عودة استكشافية.
صعدوا الطائرة، تاركين وراءهم الثلوج والأفق الرمادي في السويد، متجهين نحو شمس فلسطين ودفئها. لم يكونوا يعرفون ما الذي ينتظرهم هناك بالضبط، لكنهم كانوا يعلمون أن هذه الرحلة ستغيرهم إلى الأبد.
الفصل التاسع
بعد ساعات طوال من الطوّاف في الجو، وهبوطٍ هادئ كعادة الرحلات السويدية، فتح باب الطائرة على عالمٍ مختلف. لم تكن الصدمة الأولى هي حرارة الجو فحسب، بل صخبُ الأصوات الذي استقبلهم في مطار بن غوريون. ضجيجُ العربات، أصوات الناس المتداخلة، الضحكات العالية، كل ذلك كان تناقضًا صارخًا مع الهدوء المنظم الذي اعتادوا عليها في مطار ستوكهولم. كانت حواسهم، التي اعتادت البرودة والسكون، تُقصف فجأة بدفء الهواء وضجيج الحياة.
كان جورج في المقدمة، عيناه تتسع دهشة. كانت الصور التي جمعها على الإنترنت لا تُضاهي الواقع أبدًا. الشمس كانت أكثر إشراقًا، الألوان أكثر حيوية. بينما كان أعمامه الياس وسامي وجمال ويوسف يتابعون الإجراءات، حاول جورج أن يستوعب المشهد.
خرجوا من المطار. الهواء الدافئ لفح وجوههم. لم يكن هناك ثلج يغطي الأرض، بل أشجار نخيل باسقة، وأشجار زيتون خضراء تنتشر على التلال البعيدة. الروائح كانت مختلفة: مزيج من رائحة التراب المبلل، البهارات، ورائحة القهوة العربية التي كانت تطفو في الهواء.
كانت الصدمة الأكبر عند وصولهم إلى الناصرة، مدينة أجدادهم. الشوارع كانت أضيق وأكثر فوضوية من شوارع السويد. السيارات كانت تُصدر أبواقها باستمرار، والباعة المتجولون ينادون على بضاعتهم بصوت عالٍ. لكن وسط هذه الفوضى الظاهرة، كان هناك نبض حياة لم يعرفوه.
استقبلتهم عائلة كبيرة، أقارب لم يروهم قط، لكنهم احتضنوهم بحرارة غير معهودة. النساء يزغردن، الرجال يربتون على أكتافهم بحب. كان الجميع يتحدثون العربية بطلاقة، وبدأ حاجز اللغة يظهر بوضوح. سامي حاول جاهداً الترجمة، بينما جمال ويوسف، الذين لم يتحدثا العربية بطلاقة، وجدا نفسيهما يعتمدان على الإيماءات والابتسامات.
جلسوا إلى مائدة عامرة بأصناف الطعام التي كانت جدتهم جورجيت تحاول أن تطهوها في السويد، لكن هنا، كانت النكهات أعمق، الطعم أغنى، وكأنها نابعة من روح الأرض نفسها. المقلوبة الساخنة، أطباق الحمص والفلافل الطازجة، الخبز الساخن الذي يُقدم فور خبزه. كل لقمة كانت تحكي قصة، وتوقظ شيئًا في ذاكرتهم الجماعية.
المشهد الذي أثر فيهم حقًا كان طريقة العائلات في التجمع. لم تكن مجرد زيارة، بل كانت احتفالًا بالحياة. الأطفال يركضون بين الأقدام، الأصوات ترتفع بالضحكات والأحاديث المتداخلة. شعور كثيف بـالترابط والدفء البشري غمرهم. هذا الدفء، هذا الحب غير المشروط، هذه الحميمية العفوية، كانت تختلف جذريًا عن حياتهم في السويد، حيث المساحات الشخصية تُقدَّس، والتعبيرات العاطفية تُضبط.
شعر جورج براحة غريبة. وكأن الصور التي رآها على الشاشة قد تجسدت أمامه، لكنها كانت أقوى وأكثر حيوية. لم يكن الأمر مجرد سياحة ثقافية، بل كان اكتشافًا لعمق الروح البشرية، لجزء من أنفسهم لم يعلموا بوجوده. كانت فلسطين، بكل صخبها ودفئها والفوضى تُحدث فيهم تأثيرًا مثيرًا للاهتمام.
الفصل العاشر
لم تكن زيارتهم للناصرة مجرد جولة سياحية. كان هدف جورج (الحفيد) الأساسي، الذي لم يبح به لأحد تمامًا، هو البحث عن الذاكرة الحية التي كانت جدته جورجيت قد تركت وصيتها حولها. بعد الأيام الأولى من الدهشة والتأقلم مع صخب الحياة، رافقهم قريبهم الذي استقبلهم إلى بيتٍ قديمٍ في قلب الناصرة. بيت حجارته تشهد على عصور مضت، وأقواسه تحتضن قصصًا لا حصر لها.
هناك، في غرفة معيشة دافئة ذات سجاد عتيق ونافذة تطل على حارة قديمة، التقوا بـخالة أمهم الكبرى، "أم يوسف". كانت امرأة تجاوزت التسعين من عمرها، لكن عيناها كانتا تلمعان بذكاء حاد، وعلى وجهها تجاعيد تحكي تاريخًا كاملاً. جلست أم يوسف، كأنها عرشٌ من الذاكرة، تستقبلهم بابتسامة دافئة ولهجة فلسطينية أصيلة لم يعتدها الأحفاد.
كانت أم يوسف هي "حارسة الذاكرة" الحقيقية من داخل الوطن. بدأت تتحدث، وصوتها الدافئ يحمل معه أصداء السنين. لم تكن مجرد حكايات، بل كانت صورًا حية تنبعث من كل كلمة. تحدثت عن طفولة جورجيت (الأم الراحلة) بين بساتين الزيتون، عن صوت أجراس الكنائس وأذان المساجد المتناغم في الناصرة، عن ليالي السمر تحت ضوء القمر، وعن حقول القمح التي كانت تتراقص مع الريح.
أيام كانت الأرض هي الأم الحقيقية لنا، يا أولادي، قالت أم يوسف، وعيناها تدمعان ببطء. كانت جورجيت تحب رائحة التراب بعد المطر. كانت روحها معلقة بكل شبر هنا.
وجهت حديثها إلى الياس (الابن الأكبر)، الذي كان يستمع بانتباه شديد، وكأنها تُداوي جراحه القديمة. أتذكر يا الياس، عندما كنت صغيرًا، كنت تأتي مع أمك تلعب في ساحة البيت هنا؟ كانت روحك تشبه روح أبيك، قوية وعنيدة. لم نكن نظن أنكم ستغادرون أبدًا.
ثم التفتت إلى جورج (الحفيد)، الذي كان يجلس أقرب ما يكون إليها، عيناه مثبتتان عليها كأنها شاشة تعرض فيلمًا وثائقيًا. "وأنت يا بني... وجهك يذكرني بجدك راسم عندما كان شابًا. كان لديه نفس هذا الفضول في عينيه.
لم تقتصر حكايات أم يوسف على الجمال والذكريات السعيدة. تحدثت أيضًا عن صعوبات الحياة تحت الاحتلال، عن الضيق، وعن التشبث بالأرض رغم كل شيء. لكننا صمدنا، يا أولادي، قالت بصوت ثابت. هذه الأرض روحنا. وروحكم أنتم، حتى لو ولدتم بعيدًا.
شعر الأبناء والأحفاد، وخاصة جورج، أنهم ليسوا مجرد سياح يزورون مكانًا غريبًا. كانوا يلامسون جذورهم الحية. كلمات أم يوسف لم تكن مجرد حكايات، بل كانت شواهد حية على هوية كادت أن تُنسى. كانت تملأ الفراغات في ذاكرتهم، وتُعطي معنى لوصية جورجيت الأخيرة. لقد بدأت جدران "المناعة" التي بناها الجيل الجديد تتصدع أمام دفء حكايات أم يوسف.
الفصل الحادي عشر
لم تكن الأيام التي قضوها في فلسطين مجرد زيارة عابرة. كانت بمثابة رحلة إلى أعماق الذات، إلى جذور كانت مدفونة تحت طبقات من الثلج السويدي واللامبالاة. كل فرد من العائلة عاد من فلسطين بشيء مختلف، بشيء تغير في داخله إلى الأبد.
الياس كان الأكثر تأثرًا. بالنسبة له، لم تكن فلسطين مجرد حكايات، بل كانت جرحًا قديمًا لم يلتئم. عندما رأى الناصرة بعينيه، وزار الأماكن التي كان والده يتحدث عنها، شعر وكأن قطعة مفقودة من روحه قد عادت إليه. زالت مرارته القديمة، واستبدلت بنوع من الفخر الهادئ. لم يعد يرى الهجرة كهروب أو هزيمة، بل كتضحية عظيمة من والديه لضمان مستقبلهم. بدأ يتحدث العربية بطلاقة أكبر، ليس لأنها لغة العمل، بل لأنها لغة القلب والذاكرة. شعر بمسؤولية جديدة تجاه الحفاظ على هذا الإرث.
سامي الذي كان دائمًا حلقة الوصل، عاد أكثر قوة ووضوحًا. لقد رأى بعينيه كيف يمكن لجسر أن يُبنى بين عالمين. فهم الآن عمق حنين والديه، وأدرك أن دوره ليس فقط الترجمة اللغوية، بل الترجمة الثقافية والعاطفية بين الأجيال. أصبح أكثر إصرارًا على تعليم أبنائه اللغة العربية والتعريف بالثقافة الفلسطينية، ليس كواجب، بل كجزء أصيل من هويتهم.
جمال والد جورج، كان التغيير فيه أكثر وضوحًا. هو الذي كبر سويديًا بالكامل، لم يكن يفهم أبدًا لماذا يتحدث والداه عن "الوطن" بهذا الشجن. لكن رؤية الناصرة، ولقاء أم يوسف، ومشاهدة الترابط العائلي، أيقظت فيه شيئًا لم يكن يعرفه. شعر بنوع من الانتماء العميق الذي لم يختبره من قبل. بدأ يبحث عن كتب عن تاريخ فلسطين، ويُشاهد أفلامًا وثائقية، ويرغب في معرفة المزيد. تحول فضوله إلى رغبة حقيقية في فهم جذوره.
يوسف الأصغر والأكثر ابتعادًا، كان الأكثر دهشة. لم يكن يتوقع أن يجد كل هذا الدفء والحياة في مكان كان يراه مجرد بؤرة صراع. المشاعر العائلية الجياشة، الألوان، الروائح، كلها كانت صدمة إيجابية له. بدأ يوسف، للمرة الأولى، يشعر ببعض الحنين إلى مكان لم يعرفه. لم يتحول إلى فلسطيني بالكامل بين عشية وضحاها، لكن البذور قد زُرعت. بدأ يطرح أسئلة أكثر على إخوته ووالده عن فلسطين، وبدا كأنه يبحث عن شيء مفقود في هويته.
جورج (الحفيد): كان هو الشرارة، وعاد من فلسطين كشعلة. لقد وجد الكنز الذي بحث عنه. لم تعد فلسطين مجرد صور على الإنترنت، بل أصبحت تجربة حية، جزءًا لا يتجزأ من هويته. أصبح يتحدث عن الرحلة بحماس شديد لأصدقائه في السويد، ويُظهر لهم الصور والفيديوهات التي التقطها. كان مصممًا على عدم نسيان ما رآه وشعر به. لقد أصبح هو "حارس الذاكرة" للجيل الجديد، يرى أن وصية جدته جورجيت لم تكن عبئًا، بل كانت دعوة لاكتشاف الذات.
لقد غيرت هذه الزيارة كل شيء. لم تعد فلسطين مجرد اسم على الخريطة، بل أصبحت جزءًا حيًا من هويتهم. لقد أدركوا أن جذورهم تمتد عميقًا في تلك الأرض، وأن هذه الجذور هي التي تُعطيهم القوة، حتى وهم يعيشون على أرض الثلج. كانت رحلة العودة إلى السويد مختلفة تمامًا عن رحلة الذهاب. لم يعد هناك شعور بالضياع، بل شعور بالامتلاء، بالانتماء، وبأنهم يحملون معهم أصداء الذاكرة من وطنٍ لم ينسوه، ولن ينسوه أبدًا.
الفصل الاخير
عادت العائلة إلى السويد، لكنهم لم يعودوا نفس الأشخاص الذين غادروها. لم تحمل حقائبهم هدايا تذكارية فحسب، بل حملت أرواحهم أصداء الناصرة، دفء أهلها، وصورًا حية لمحوّل من الثقافة والتاريخ. أدركوا أن رحلة العودة إلى الوطن لم تكن مجرد سفر، بل كانت رحلة اكتشاف للذات ولجذور لم يعرفوا عنها إلا القليل.
في الأيام والأسابيع التي تلت العودة، بدت الحياة في السويد مختلفة. لم تعد برودة المناخ تزعجهم بقدر ما كانت تثير فيهم حنينًا غريبًا لدفء شمس فلسطين. تغيرت نظراتهم لبعضهم البعض، ولأبيهم أبا خالدا. فهموا الآن بعمق التضحية التي قدمها هو وجورجيت الأم الراحلة، عندما قرروا الهجرة. لم يعد الحنين في عيني الأب مجرد حزن، بل أصبح إرثًا يجب الحفاظ عليه.
وصية الأم جورجيت التي همست بها في أنفاسها الأخيرة: "لا تنسوا فلسطين"، لم تعد مجرد همسة ضعيفة، بل تحولت إلى رنين مدوٍّ في قلوب أبنائها وأحفادها. إنها الوصية التي ظلت سنوات طويلة تتردد في آذانهم دون أن تجد لها صدى حقيقيًا، فكانت فلسطين بالنسبة لهم مجرد اسم، نقطة على الخريطة، أو حكايات باهتة من زمن غابر.
ولكن، عندما حرك جورج، الحفيد الذي لم ير فلسطين قط، فضوله للبحث عن هذا الاسم على شاشات الإنترنت، اكتشف عالمًا لم يتوقع وجوده. لم يكن يبحث عن واجب، بل عن فضول شاب يرى صورًا لمناظر طبيعية خلابة، ومأكولات شهية، والأهم من ذلك، يرى دفء الترابط العائلي الذي يفتقده في مجتمعه السويدي.
هذا الفضول، الذي ولد من رحم وصية الأم ودُعم بالبحث الرقمي، كان هو الشرارة التي أيقظت الذاكرة في نفوس الأبناء. رأوا في عيني جورج، وفي الصور التي عرضها، ما لم يتمكنوا هم أنفسهم من رؤيته بوضوح. لقد ألهمهم هو، الجيل الثالث، بالعودة إلى مكان لم يزره منذ الطفولة، أو لم يروه قط.
لقد غيرت الزيارة كل شيء. الياس تصالح مع مرارته، ووجد في هويته الفلسطينية قوة جديدة. سامي أصبح الجسر الحقيقي، ينقل الحكايات واللغة ليس فقط بين الأجيال في بيته، بل أصبح سفيرًا لثقافته. جمال، الذي كان سويديًا بالكامل، اكتشف جزءًا مفقودًا من روحه. ويوسف، الأصغر، بدأ يشعر بانتماء لم يتخيله، وأصبح يطرح الأسئلة بشغف.
أما جورج، فقد أصبح "حارس الذاكرة" الجديد، ليس بالقصص الموروثة فقط، بل بالصور، والفيديوهات، وشهادة العين. لقد حمل فلسطين معه إلى السويد، ليس في حقائبه، بل في قلبه ووعيه. أصبح يشارك أصدقاءه وزملائه في المدرسة عن هذه الأرض الساحرة، عن أهلها الطيبين، وعن تاريخها العريق، مما أثار فضولهم هم أيضًا.
لم تعد وصية جورجيت مجرد عبء يثقل كاهلهم. لقد أصبحت دعوة إلى الحياة، إلى الاكتشاف، إلى فهم الذات. "لا تنسوا فلسطين" لم تعد تعني العودة الجسدية، بل تعني الحفاظ على الذاكرة، وعلى الجمرة، وعلى الدفء البشري الذي وجدوه في أرض أجدادهم. لقد أدركوا أن هويتهم الفلسطينية والسويدية لا تتصادمان، بل تتكاملان، لتصنع منهم "أحفاد الشتات والثلج" الذين يحملون شمس الناصرة في قلوبهم، حتى تحت سماء السويد الباردة.