آخر الأخبار

اتفاق بنوايا سيئة

شارك

الاتفاق الأخير الذي رعته الولايات المتحدة وقطر ومصر وتركيا، والذي نصّ على وقف شامل لإطلاق النار، انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق السكنية في غزة، وتبادل الأسرى، بدا وكأنه خطوة نحو إنهاء الحرب المدمرة التي أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين. إسرائيل، من جهتها، حصلت على كل ما طالبت به: استعادة جميع أسراها، التزام حماس بنزع السلاح، وضمانات أمنية دولية. لكن ما تلا الاتفاق من تصريحات وتحركات سياسية وعسكرية يكشف أن النوايا الحقيقية للحكومة الإسرائيلية لم تكن تهدئة الصراع، بل إعادة تشكيله وفق شروطها، وبما يخدم مشروعها الاستيطاني طويل الأمد.

وزير الدفاع يسرائيل كاتس لم ينتظر طويلًا بعد توقيع الاتفاق، إذ أعلن أن الجيش الإسرائيلي يجب أن يكون في حالة تأهب قصوى استعدادًا لعمليات عسكرية جديدة في غزة. هذا التصريح لا يمكن فهمه إلا كتهديد مباشر بنقض الاتفاق، ويعكس توجّهًا عدوانيًا لا يتماشى مع روح التهدئة، بل يعيد إنتاج منطق الحرب والدمار. أما وزير المالية بتسلئيل سموترتش، فذهب أبعد من ذلك، حين وعد جمهوره بأن إسرائيل “ستعود إلى غزة” وأن “الاستيطان سيعود إليها”. هذه التصريحات لا تمثل فقط خرقًا فاضحًا للاتفاق، بل تعكس رغبة دفينة في إعادة احتلال القطاع، وتكشف أن الحكومة الحالية لا ترى في غزة سوى أرضًا قابلة للاستيلاء، لا شعبًا يستحق الحياة والحرية.

رغم إعلان نهاية الحرب رسميًا، لم يتوقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن استخدام خطاب تحريضي ضد الفلسطينيين، مستغلًا قضية تأخير تسليم جثامين الجنود الإسرائيليين المحتجزين في غزة. ففي تصريحات له مؤخرًا، اتهم حركة حماس بـ”المماطلة المتعمدة” في تسليم الجثامين، واعتبر ذلك “انتهاكًا أخلاقيًا وإنسانيًا”، رغم أن الاتفاق الموقع لا يتضمن جدولًا زمنيًا واضحًا لتسليم الجثامين. هذا الخطاب يأتي في وقت تؤكد فيه مصادر من داخل غزة أن تعقيدات ميدانية حالت دون استكمال عملية التسليم، منها اغتيال مسؤولين ميدانيين كانوا يحتفظون بالجثامين، وتجريف القوات الإسرائيلية لمواقع دفن محتملة، ما أدى إلى اختلاط الجثامين في مقابر ميدانية. ومع ذلك، يصر نتنياهو على تحميل الفلسطينيين المسؤولية الكاملة، في محاولة واضحة لتأجيج الرأي العام الإسرائيلي، وإبقاء حالة العداء قائمة حتى بعد انتهاء العمليات العسكرية.

تصريحات نتنياهو لا تنفصل عن السياق العام للحكومة الإسرائيلية، التي ترفض الاعتراف بأي مسؤولية عن تعقيد المشهد الإنساني في غزة، وتستمر في استخدام أدوات الضغط السياسي والإعلامي لتبرير أي تصعيد محتمل مستقبلي، تحت ذريعة “الرد على التلكؤ الفلسطيني”. في هذا السياق، تحاول إسرائيل جر الولايات المتحدة إلى معركة مباشرة ضد حماس، مستخدمة ورقة الجثامين كذريعة جديدة.

إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من جهتها، تقدم كل الضمانات الأمنية والسياسية لإسرائيل، وتشارك في صياغة اتفاقات تضمن لها استعادة الأسرى، نزع سلاح حماس، وتثبيت ما تسميه “الخطوط الحمراء” داخل غزة. هذا الدعم يُقرأ في إسرائيل على أنه ضوء أخضر لمواصلة الضغط العسكري، بل وحتى التهديد بالعودة إلى العمليات. لكن في المقابل، فإن مؤتمر شرم الشيخ، الذي حضره ترامب شخصيًا إلى جانب أكثر من 30 زعيمًا دوليًا، وضعه في موقع مختلف تمامًا: موقع راعي السلام، لا راعي الحرب. فقد وصف ترامب الاتفاق بأنه “تاريخي”، وأشاد بدور مصر وقطر وتركيا، مؤكدًا أن “الحرب في غزة انتهت” وأن “السلام في الشرق الأوسط أصبح ممكنًا”.

هذا التناقض يضع إدارة ترامب في موقف محرج. فهي من جهة تُستخدم كأداة تنفيذ لسياسات اليمين الإسرائيلي المتطرف، ومن جهة أخرى تحاول الحفاظ على صورتها الدولية كقوة دبلوماسية قادرة على إنهاء النزاعات. غياب نتنياهو عن القمة، رغم محاولات ترامب لإقناعه بالحضور، يعكس هذا التوتر. فنتنياهو، المحاصر داخليًا بتحالفات يمينية متشددة، تملص من الحضور، وساعده موقف أردوغان على ذلك، خشية أن يُنظر إليه كمن يرضخ لضغوط دولية أو يعترف ضمنيًا بدولة فلسطين عبر جلوسه إلى جانب الرئيس محمود عباس.

رغم أن إسرائيل حصلت من الاتفاق على كل ما أرادته، إلا أن تصريحات كاتس وسموترتش ونتنياهو تؤكد أن النوايا الحقيقية لم تكن تهدئة الصراع، بل استغلال الاتفاق كمرحلة انتقالية نحو فرض وقائع جديدة على الأرض. فالحكومة، التي يقودها تحالف يميني متطرف، لا تكتفي بالأمن، بل تسعى إلى فرض واقع استيطاني جديد، حتى لو كان ذلك على حساب حياة المدنيين الفلسطينيين وخرق القوانين الدولية. ما يجري اليوم يكشف أن العقلية الحاكمة في إسرائيل لا تزال أسيرة لفكر استيطاني توسعي، لا يعترف بالحقوق الفلسطينية، ولا يحترم الاتفاقات الدولية. فحتى في لحظات يُفترض أن تكون للسلام، تُستخدم لغة الحرب والتهديد، وتُطلق وعود بالعودة إلى الاحتلال. هذا لا يبشّر بخير، لا للفلسطينيين ولا للإسرائيليين، بل ينذر بدوامة جديدة من العنف، يدفع ثمنها الأبرياء.

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا