الشيخ صفوت فريج
رئيس الحركة الإسلاميّة
منذ اندلاع العدوان على غزّة والقطاع، حاول اليمين الصهيوني الفاشي أن يقدّم الحرب ويصوّرها على أنّها "معركة وجود"، ووسيلة حاسمة لتثبيت مشروعه الاستيطاني. غير أنّ مجريات الواقع الميداني والسياسي سرعان ما فضحت زيف هذه الرواية، وبدل أن يخرج نتنياهو بإنجازات استراتيجيّة أو مكاسب أمنيّة، وجد نفسه غارقًا في أزمات داخليّة وخارجيّة متفاقِمة، كشفت حدود القوّة العسكريّة وعجزها الفادح عن تحقيق الأهداف السياسيّة المعلَنة.
رغم القصف العنيف والتدمير الممنهَج للبنى التحتيّة، عجزت آلة الحرب عن إخضاع أهالي غزّة أو دفعهم قسرًا إلى الترحيل، بل أثبت سكّان غزّة وقطاعها قدرات استثنائيّة على الصمود والمناورة، ورسّخوا قناعةً بأنّ القوّة العسكريّة، مهما بلغت من شدّة ووحشيّة، تبقى عاجزة عن كسر إرادة الشعوب، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
اليمين الفاشي، الذي روّج لجمهوره الحرب كوسيلة للتخلُّص من "التهديد الفلسطيني"، وجد نفسه في مواجهة تراجُع ثقة الشارع بالقيادة السياسيّة والعسكريّة، وتفاقُم حالة الانقسام الداخلي. وبدل أن توحّد الحرب المجتمع الصهيوني، عمّقت الشرخ بين الحكم والمعارضة، وعرّت تصدّعات الشارع اليهودي، وأعادت إلى الواجهة ملفّات الفساد والفشل الإداري.
المجازر التي ارتُكبت في غزّة، وما خلّفته من دمار ومعاناة إنسانيّة، خلقت موجة واسعة من النقد الدولي، وأدخلت إسرائيل في عزلة سياسيّة ومجتمعيّة غير مسبوقة. بهذا خسر اليمين الفاشي ورقته الأبرز في الاستثمار بمسار التطبيع، بعدما تحوّلت صور الدماء والركام إلى جدارٍ يصُدّ كلّ مشروع سياسي إقليمي، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
يقوم المشروع الاستيطاني على فرض الأمر الواقع بالقوّة، من خلال توسيع المستوطنات وقطع الطريق أمام أيّ إمكانيّة لقيام دولة فلسطينيّة. غير أنّ توقُّف الحرب دون تحقيق "نصر حاسم" فضح هشاشة هذه الرؤية، وأثبت أنّ حكم اليمين الفاشي، الّذي راهن على القوّة العسكريّة وحدها، عاجز عن المضيّ في مخطّطاته التوسّعيّة. قال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}, لينقلب مشروع الاستعلاء في الأرض إلى ضدّه، حيث يواجه صمودًا وجلَدًا من الأهل في غزّة رغم كلّ المآسي، إلى جانب ضغط دولي متصاعد يضيّق عليه الخناق. وما صُوِّر "كحلم استيطاني" انقلب إلى كابوس سياسي وأمني، فلا عودة للاستيطان في غزّة، ولا اعتراف بضمّ أراضي الضفّة الغربيّة، بل العكس، نشهد سيلًا من الاعترافات الدوليّة بالدولة الفلسطينيّة، وهو ما يقوّض الأساس الّذي قام عليه المشروع الاستيطاني الفاشي.
إنّ توقُّف الحرب على غزّة ليس محطّة عابرة في تاريخ البلاد والمنطقة، بل علامة فارقة تكشف فشل مشروع اليمين الفاشي الاستيطاني. لقد سعى لتحويل الحرب إلى رافعة لمكاسب استراتيجيّة، فانتهى به المآل إلى مأزق متعدّد الأبعاد. تجربة غزّة تؤكّد أنّ إرادة الشعوب، حين تتشبّث بالحياة والحرّيّة، قادرة على قلب الموازين، وأنّ المستقبل لا يمكن أن يُبنى على سياسات القوّة والاستيطان، بل على العدالة والاعتراف بحقوق الشعوب.