آخر الأخبار

ألمانيا بين الضمير والتواطؤ: لحظة الحقيقة في الشرق الأوسط

شارك

قبل أيام، التقيت في برلين بعدد من الشخصيات الألمانية التي ساهمت في صياغة واحدة من أكثر الوثائق السياسية جرأة ووضوحًا في السنوات الأخيرة: الورقة البحثية "ما بعد الـ Staatsraison"، التي نُشرت في 2 أكتوبر 2025 عبر منصة مستقلة تجمع خبراء في القانون الدولي والسياسة الخارجية. لم يكن اللقاء مجرد تبادل أفكار، بل كان مواجهة صريحة مع الضمير السياسي الألماني، في لحظة تاريخية تتطلب أكثر من مجرد مواقف دبلوماسية.

الورقة، التي شارك في إعدادها أكثر من أربعين خبيرًا، تمثل إجماعًا غير حزبي يدعو إلى إعادة تعريف المسؤولية التاريخية لألمانيا تجاه الشرق الأوسط، بعيدًا عن التبريرات التقليدية التي تربط دعم إسرائيل بالمحرقة، وبشكل يتماشى مع الدستور الألماني والقانون الدولي. إنها دعوة إلى أن تكون السياسة الخارجية انعكاسًا للقيم، لا أداة لتبرير الصمت على الانتهاكات.

ما يميز هذه الوثيقة أنها لا تكتفي بالتشخيص، بل تقدم خارطة طريق عملية وشاملة. فهي تطالب بتعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، وفرض حظر على منتجات المستوطنات، ووقف تصدير الأسلحة التي تُستخدم في ارتكاب جرائم حرب. كما تدعو إلى الاعتراف الفوري بدولة فلسطين ضمن حدود 1967، وتمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات المشتركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي تنادي بالسلام والاعتراف المتبادل.

الورقة تذهب أبعد من ذلك، فتواجه الروايات المنحازة التي تهيمن على الخطاب الإعلامي والسياسي، وتطالب بخطاب يستند إلى الحقائق المستقلة، لا إلى التضليل أو التحيز. وهي تربط بين الداخل والخارج، عبر استراتيجية شاملة لمكافحة الكراهية الناتجة عن النزاع، تشمل اليهود والعرب والمسلمين في أوروبا، وتدعو إلى حماية المؤسسات الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية ووكالة الأونروا من الضغوط السياسية والمالية.

إذا استجابت الحكومة الألمانية لهذه الورقة، فإننا أمام تحول جذري يعيد لألمانيا دورها كوسيط نزيه وفاعل، ويعزز مصداقية الاتحاد الأوروبي، ويفتح الباب أمام سلام حقيقي قائم على العدالة والاعتراف المتبادل. أما إذا تم تجاهلها، فإن ألمانيا تخاطر بأن تُسجل في التاريخ كدولة اختارت التواطؤ في لحظة كان العالم فيها بحاجة إلى صوتها.

الورقة نُشرت في سياق تصاعد الانتقادات الدولية لأداء ألمانيا في ملف غزة، خاصة بعد صدور أوامر متكررة من محكمة العدل الدولية تطالب بوقف الدعم العسكري لإسرائيل، وضمان وصول المساعدات الإنسانية. وقد جاءت كمبادرة مستقلة من خبراء أكاديميين وحقوقيين، بعيدًا عن الحسابات الحزبية أو المؤسسية، ما يمنحها مصداقية إضافية.

لقد خرجت من ذلك اللقاء وأنا أكثر قناعة بأن هذه الورقة ليست مجرد وثيقة سياسية، بل اختبار أخلاقي، وفرصة تاريخية لإعادة ضبط البوصلة. وهي تضع الألمان جميعًا، أمام سؤال جوهري: هل تريدون أن تكونوا جزءًا من الحل، أم شركاء في استمرار المأساة؟

ألمانيا اليوم أمام مفترق طرق. والاختيار ليس بين إسرائيل وفلسطين، بل بين العدالة والتواطؤ، بين القانون والصمت، بين التاريخ والمستقبل.

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا