كاتب المقال: د. أحمد كامل ناصر
يُفترض بالوسط الثقافيّ أن يكون حلبة صراع فكريّ، ومساحة للاشتباك العقلانيّ مع الأفكار والنصوص والظواهر، لكنّ المشهد الأدبيّ والثقافيّ للعرب في الداخل الفلسطينيّ (إسرائيل) يُعاني، على الرغم من ازدهار النشر وكثافة المهرجانات، من خمول نقديّ واضح وغياب للجدليّة الحقيقيّة التي تُلهم الوعي وتصنع التغيير. النقد، الذي هو عقل الثقافة وضميرها اليقظ، تحوّل في غالب الأحيان إلى مجرّد توصيف بارد أو مجاملة اجتماعيّة، مفضلاً الاحتفاء والتطمين على حساب التساؤل والمواجهة. هذه الظاهرة لا تُشير فقط إلى ضعف في أدواتنا النقديّة، بل تعكس هشاشة ذاتيّة وعدم رغبة في دفع الأثمان التي تتطلبها المواجهة الفكريّة الصادقة والعميقة، مكرّسة بذلك حالة من الركود الثقافيّ تحت غطاء النشاط الظاهريّ.
إنّ أبرز أسباب هذا الصمت تكمن في طبيعة المجتمع المحليّ الصغير والمتشابك؛ فالمجتمع العربيّ في الداخل هو "مجتمع قرية كبيرة"، حيث تتداخل فيه الأنساب والعلاقات الشخصيّة والمهنيّة. في هذا المناخ، بات الناقد والمثقف أسير "المجاملة الثقافيّة". يخشى الكثيرون من إثارة العداوات أو كسر الخواطر في شبكات العلاقات الاجتماعيّة الضيّقة، مما يدفعهم إلى النأي عن مقاربة النصوص القويّة التي تحتاج إلى فحص قاسٍ وتفكيك حقيقيّ. يتحول النقد هنا إلى خدمة علاقات عامّة، حيث يُصبح الهدف هو الترويج للنصّ بدلاً من تقييمه. النقد الفاعل، الذي يُحاكم النصوص على أساس جودتها الفنيّة والفكريّة ويُشخص عللها، يغيب ليحلّ محلّه التركيز على توزيع الجوائز والتكريمات على أساس شبكة العلاقات الاجتماعيّة (التي يمكن تسميتها بـ "الواسطة الثقافية). لا يعني هذا غياب النقد الأكاديمي تمامًا، بل يعني غياب النقد الحيّ والفاعل الذي يدخل في صراع مع النصّ ويُغيّر الخارطة الأدبيّة. النقد الموجود غالبًا ما يكون نقدًا مدرسيًّا تنظيريًّا يُحلل البُنى دون أن يتورط في القيمة، أو مديحًا لاذعًا يُخفف من حدة النقد الجديّ.
وعلى سبيل المثال، عند صدور روايات تعالج قضايا شائكة مثل العنف المجتمعيّ أو الفساد داخل البلديّات العربيّة، أو قضايا الأقليّات الجنسيّة، نجد أنّ النقاش العامّ يميل إلى تجميل العمل باعتباره مجرد "عمل جريء" دون التعمق في مدى نجاحه الفنيّ أو فعاليّة طرحه الاجتماعيّ. هذا التجنّب يُبقي على القضايا الكبرى مُعلّقة، ويُفوّت الفرصة على الأدب ليصبح أداة تغيير حقيقيّة. هذا الموقف يتفاقم بسبب طبيعة العلاقة بين المثقّف والمؤسسّة، لا سيما في سياق يغلب عليه شحّ مصادر الدعم المستقلة. المؤسسات الثقافيّة والإعلاميّة، وخاصّة تلك التي تعتمد على التمويل المشروط، غالبًا ما تُبرمج نشاطها لتجنب أي صدام أو خطاب مُتمرّد يُمكن أن يُفَسَّر على أنّه "تحريضيّ". هذا الوضع يُقيّد حريّة الطرح ويُركّز على المادة الإخباريّة المحايدة أو الأعمال التي تُركّز على الفلكلور والتراث بعيدًا عن الأسئلة السياسيّة والاجتماعيّة الراهنة، ويتحول المعيار من الجودة النقديّة والفكريّة إلى القدرة على التكيّف.
في هذا السياق، نجد أنّ ظواهر مثل المهرجانات الأدبيّة وفعاليّات توقيع الكتب تتزايد، لكنّها تظلّ خاوية من المحتوى الجدليّ. تُخصص الصفحات الثقافيّة والمنابر الإعلاميّة للمادة الإخباريّة والمقالات الخاملة والحوارات الباردة، بينما يغيب الفضاء المخصّص للنقد المضادّ والأصوات المُنْشَقَّة التي تستطيع تفجير الأسئلة الكبرى. هذا هو جوهر ما يمكن تسميته بـ "البؤس الثقافي"؛ إذ أنّ الفعل الثقافيّ يتحول بمجمله إلى منظومة صور شكليّة لا تلامس جوهر الفعل الثقافيّ الذي يفترض به أن يكون جزءًا من حركة تاريخيّة اجتماعيّة.
ساهمت التكنولوجيا الحديثة، لا سيما مع ظهور ندوات "الزوم" والمنصات الثقافيّة الرقميّة، في تضخيم الوهم الثقافيّ. أتاحت هذه المنصات كثافة في الفعاليات لكّنها قللّت من جودة النقاش وعمقه. تحولّت الندوات الأونلاينية إلى ما يُسمى بـ "التكنوثقافة"، حيث تُصبح الفعاليّة مجرد تسجيل صوتيّ وبصريّ، يخلو من الحوار النديّ القائم على الاختلاف الجذريّ. الجميع يتفق، والجميع يمدح، والجميع يبتسم في الكاميرا؛ ولا تظهر أي قيمة اختلافيّة صراعيّة تُحرّك الفعل الثقافيّ. إنّ المشهد الثقافيّ والفكريّ الحقيقيّ ينهض على قيمة الصراع الفكريّ، أو ما يُسمى بـ "أدب المناظرات". حين يغيب هذا الصراع، تُصبح الثقافة مجرد مجموعة من النصوص البائتة والحوارات الباردة. هذا التململ الثقافيّ هو مجرد مؤشر على خيبة إبداعيّة تتجاوز الحيّز الثقافيّ إلى الفضاء الاجتماعيّ، إذ تدلّل على أنّ الفعل الثقافيّ الجادّ ليس من أولويات أي مؤسسة أو ذات تشتكي من النقد.
في النهاية، لا يمكن للمشهد الثقافيّ العربيّ في الدّاخل أن ينهض فعليًّا إلّا بكسر هذا الصمت النقديّ. يجب على الإعلام الثقافيّ والمنصات الجديدة أن تتحمل مسؤوليتها في توليد الأسئلة الحارقة وإثارة القضايا الجدليّة بدلاً من الاكتفاء بالتغطيّة الإخباريّة والمدح المتبادل. نحن بحاجة إلى جيل نقديّ مُتَمَرّد يرفض القوالب المدرسيّة والاجتماعيّة، جيل يتبنى النقد اللاذع والفاعل كجزء أصيل من حركته الثقافيّة-الاجتماعيّة. النقد ليس ترفًا، بل هو فعل إنسانيّ واعٍ يفرض المساءلة العقلانيّة على النصّ والسلطة والمجتمع. إنّ الثقافة التي تخشى الصراع تموت في صمت وتصبح ديكورًا لواقع متردٍ، ولن ينهض أدبنا إلّا إذا استعاد النقد وظيفته الحارقة كضمير مُستيقظ وعقل مُعارض للركود والوهم.
الطيرة – 7.10.2025
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com