نتنياهو بين مطرقة الداخل وسندان الخارج: لحظة الانكشاف السياسي الكبرى
بقلم: محمد دراوشة
في لحظة سياسية فارقة، اضطر بنيامين نتنياهو إلى تغيير موقفه وقبول خطة ترامب، ليس بدافع القناعة أو الانسجام مع بنودها، بل نتيجة ضغط داخلي وخارجي متصاعد كشف هشاشة موقعه السياسي، وعرّى وهم السيطرة الذي طالما حاول ترسيخه في خطابه السياسي والإعلامي. فالرجل الذي اعتاد بيع الأحلام لجمهوره، وجد نفسه محاطاً بأمواج عاتية من الانتقادات، داخلياً وخارجياً، لم يعد بالإمكان تجاهلها أو الالتفاف عليها.
التحول في الرأي العام الأمريكي كان أحد أبرز العوامل التي دفعت نتنياهو إلى هذا التراجع. فالأوساط الشبابية، واليهود الأمريكيين تحديداً، باتوا أكثر ميلاً لدعم الفلسطينيين، وأكثر انتقاداً لسياسات إسرائيل في غزة. استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت تعاظم التأييد لوقف الحرب، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، مع تزايد الاتهامات الموجهة لنتنياهو باستهداف المدنيين الأبرياء. هذا الانقلاب الشعبي في أمريكا لم يكن مجرد موجة عابرة، بل تحول بنيوي في المزاج السياسي، انعكس في صعود شخصيات سياسية جديدة مثل زوهران ممداوي، المرشح المسلم لرئاسة بلدية نيويورك، الذي وعد باعتقال نتنياهو إذا دخل المدينة، ويحظى بدعم واسع من اليهود الأمريكيين أنفسهم.
في الداخل الإسرائيلي، لم يكن الوضع أفضل حالاً. نتنياهو بات محاطاً بعزلة سياسية متزايدة، حتى من داخل الليكود، حيث بدأت الأصوات تتعالى مشككة في قدرته على الاستمرار. وزراء حكومته، وعلى رأسهم بن غفير وسموتريتش، يطلقون تصريحات متطرفة حول حلم “إسرائيل الكبرى”، ما شكل مادة دسمة للإعلام الغربي الذي انقلب على إسرائيل، وقلب معه الرأي العام الدولي. هذه التصريحات لم تضر فقط بصورة إسرائيل، بل كشفت أيضاً عن فقدان نتنياهو للسيطرة على رسائل حكومته، حيث بات كل وزير يغرد خارج السرب، في مشهد يعكس تفكك القيادة وتضارب المصالح داخل الائتلاف الحاكم.
الجيش الإسرائيلي نفسه بدأ يبتعد عن خطاب نتنياهو، ويصدر بيانات مستقلة تتناقض مع رواية الحكومة، مما يعكس أزمة قيادة حقيقية. الإعلام الإسرائيلي، الذي طالما كان أداة في يد نتنياهو، لم يعد قادراً على ترويج روايته، بل بات جزءاً من الأزمة، حيث فشلت أدواته الإعلامية في إقناع الجمهور المحلي والدولي، وزادت من حدة الانتقادات الموجهة إليه.
ظهور نتنياهو الأخير في وسائل الإعلام كان كاشفاً لحالته النفسية والسياسية. ملامحه المرتبكة، ونظراته القلقة، كشفت عن رجل لم يعد يملك زمام المبادرة، بل يلاحق الأحداث في محاولة يائسة للنجاة. لم يعد قادراً على إخفاء التوتر، رغم محاولاته الظهور بمظهر القائد المسيطر. هذا الانكشاف الشخصي لضعفه السياسي جعله أكثر عرضة للتنازلات، وأكثر استعداداً لقبول ما كان يرفضه سابقاً.
قبول خطة ترامب، في هذا السياق، لم يكن خياراً سيادياً، بل مناورة اضطرارية لامتصاص الضغط الدولي، ومحاولة الحفاظ على دعم أمريكي متآكل. نتنياهو يدرك تماماً أن استمرار الحرب في غزة، وتصاعد الانتقادات الدولية، يهددان ليس فقط موقعه السياسي، بل مستقبل إسرائيل في علاقاتها مع العالم. لذلك، جاء قبوله للخطة كمحاولة لإعادة التموضع، وتقديم تنازل محسوب في مواجهة عاصفة سياسية لا تهدأ.
لكن هذه المناورة لن تكون كافية لإنقاذ نتنياهو من المأزق الذي صنعه بنفسه. فالمجتمع الدولي لم يعد يكتفي بالتصريحات، بل يطالب بخطوات ملموسة، والرأي العام الإسرائيلي بدأ يفقد الثقة في قيادته. حتى داخل اليمين، هناك من يرى أن نتنياهو بات عبئاً على المشروع السياسي، وأن استمراره في الحكم يهدد استقرار الدولة ومصالحها الاستراتيجية.
ما حدث ليس مجرد تحول في موقف سياسي، بل لحظة انكشاف كاملة لزعيم اعتاد اللعب على الحبال، ووجد نفسه فجأة بلا شبكة أمان. قبول خطة ترامب هو اعتراف ضمني بفشل السياسات السابقة، ومحاولة لتأجيل الانهيار، لا منعه. لكن الزمن السياسي لا يرحم، والجمهور لا ينسى، والتاريخ لا يغفر لمن يبيع الأوهام في زمن الحقائق.