الحديث عن السلام، دمج مزيدٍ من النساء في مراكز اتّخاذ القرار، وإحياء الأمل بمستقبل أفضل
بقلم - حنان الصانع وإيلا ألون
من قلب واقعٍ مؤلمٍ دامٍ وحربٍ لا تنتهي، آنَ الأوان لإسماع صوتٍ آخر، صوت النساء اللاتي يؤمِنَّ بأنّه الآن بالذات، من بين الركام والألم والصعوبات، يمكن -بل ويجب- أن نبدأ في بناء شيء مختلف هنا. لا يقتصر الأمر على ترميم ما قد تهدَّم، بل يجب رسم مسارٍ جديدٍ واتّجاهٍ آخر: مستقبل من الأمن والأمان، الاحترام المتبادَل، الاعتراف بالألم والاحتياجات، السلام، ومزيدٍ من النساء في مراكز صنع القرارات واتّخاذها.
بعد ما يقارب سنتين من الحرب، وبينما ما يزال 48 مخطوفًا محتجَزين في غزّة، ومئات الآلاف من المهجَّرين يُجبَرون مرّة تلو الأخرى على ترك بيوتهم في ظروف غير إنسانيّة على أقلّ تعبير، دون أن يكون واضحًا لهم من أين وإلى أين، وبينما الهجمات المتواصلة ما تزال تزلزل أركان غزّة وجنوب البلاد، ومئات النساء والرجال يُقتَلون كلّ يوم، لا مفرّ من التفكير بطريقة أخرى مغايرة، والعمل بمسارٍ مختلف، مع القناعة والإيمان بأنّ الألم العميق والكراهية المستعِرَة، لا يمكن أن يشكّلا أساسًا لأيّ سياسة. آنَ الأوان للإصغاء إلى الصوت الداخلي الّذي ينشد الحياة، ويطالب بإعادة الجميع إلى بيوتهم، ووقف الحرب ومداواة الألم والجراح، والبدء بإعادة البناء والترميم، والعودة إلى ظروف حياة طبيعيّة متّزنة، تفتح الطريق إلى مستقبلٍ من المساواة والأمن والسلام.
بالذات الآن، نحن نختار الأمل. هذه الحرب الطويلة القاسية والمؤلمة جدًّا، تفرض أثمانًا باهظة على الجميع، لكنّ العبء الأثقل والأقسى لهذه الحرب وتداعياتها يقع على كاهل النساء، في إسرائيل وغزّة والضفّة الغربيّة. هنَّ مَنْ يُقدِّمْنَ الرعاية، مَنْ يحمينَ ويُدافِعْنَ، مَنْ يهتممْنَ بكبار السنّ وبالأطفال والجرحى. هُنَّ مَنْ يواجهْنَ استفحال العنف وتصاعد الفقر وغياب الأمان الشخصي والاقتصادي. مع ذلك، هُنَّ بالذات اللاتي يُثبِتْنَ مرّة تلو الأخرى أنهنّ قائدات، فمنذ السابع من أكتوبر تعمل العديد من النساء بمبادرات فرديّة خاصّة، وباسم منظّمات المجتمع المدني، على تغيير الواقع، من خلال تعزيز المساعدات الإنسانيّة وترسيخ البُعد الإنساني، والعمل على إطلاق سراح المخطوفين وإنهاء الحرب، وبناء حوار من أجل السلام، وإقامة جسورٍ بين المجتمعات في الوقت الّذي ينهار فيه كلّ شيء من حولِهِنْ. إنّهن لا يكتفينَ بردّ الفعل والتفاعل مع الواقع، بل يعلمنَ على بناء واقعٍ جديد، بشجاعة وهدوء وعزيمة ومنهجيّة ومثابرة.
على سبيل المثال، في غضون أيّامٍ قليلة فقط من الهجوم الدموي القاسي يوم السابع من أكتوبر، بادَرنا إلى جانب منظّمات أخرى لإنشاء غرفة طوارئ مشتركة في رهط، عمل فيها تطوُّعًا نساءٌ ورجال، يهودٌ وعرب، كتفًا إلى كتف، لمساعدة العديد من العائلات المتضرِّرَة. جمعنا تبرُّعات، جنّدنا متطوّعين، ونقلنا آلافًا من سلال الغذاء وسائر الاحتياجات الأخرى الأساسيّة للعائلات المتضرّرة - يهوديّة وعربيّة على حدٍّ سواء. نساءٌ عانَيْنَ من غياب الحماية الأساسيّة وانعدام الأمن الغذائي، ومن ضائقة نفسيّة، تجنَّدْنَ لمساعدة أخريات في ضائقة. لقد كانت هذه التجربة شاهدًا حيًّا ودليلًا صارخًا على قوّة التضامن النسائي العابر للمجتمعات.
في القرى غير المعترف بها في النقب، ومنذ اندلاع الحرب، تواجه كثير من الأمّهات صعوبة في توفير غذاءٍ أساسي لعائلاتهن، فيما تتعرَّض أخريات لحجوزات جرّاء ديونٍ صغيرة، ويُتركْنَ بلا مخصّصات حيويّة. كثيرات منهن لا يعلمْنَ أنّ لهنَّ حقوقًا في مؤسّسة التأمين الوطني، أو تُوضع أمامهن عراقيل تحول دون حصولهن على هذه الحقوق. لمساعدة هؤلاء النساء، أقمنا بالتعاون مع حركة "النشميّات" وطلبة الحقوق ومحامين/ات متطوّعين/ات من العرب واليهود، "مكاتب محاماة ميدانيّة" داخل القرى غير المعترف بها في النقب. بعد الحرب مع إيران، وصلنا إلى الميدان بهدف "ألّا نترك أيّ امرأة خلفنا"، وخلال يومَيْن من العمل على استنفاد الحقوق، استقبلنا نحو 100 توجُّه. وهناك اكتشفت بعض النساء لأوّل مرّة أنّ لهنَّ حقوقًا مكفولَة، وما زالت هناك الكثيرات ممّن هنَّ بحاجة إلى مساعدة.
قبل نحو 25 عامًا، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة القرار 1325، والّذي يُلزِم بضمان تمثيل النساء من مختلف المجموعات والقطاعات في مراكز صنع القرارات المرتبطة بالسلام والأمن، انطلاقًا من فهمٍ وإدراكٍ للضرر الخاص الّذي تُلحِقه الحروب بالنساء، والإمكانات الكبيرة الكامِنة في إشراكهن بحلّ النزاعات والصراعات وتعزيز سلامٍ مستقرّ ومستدام. ورغم أنّ إسرائيل كانت من أوائل الدول الّتي تبنَّت أجزاءً من هذا القرار في تشريعاتها منذ عام 2005، إلّا أنّه لم يُطبَّق حتّى يومنا هذا، بل على العكس تمامًا: ما زالت أصوات النساء تُهمَّش وتُقصى، وما زالت النساء تُستبعد عن هيئات صناعة القرار، ولا يؤخذ رأيها بعين الاعتبار إطلاقًا.
المحاميّتان حنان الصانع وإيلا ألون، مديرتان عامّتان شريكتان في جمعيّة إيتاخ مَعَكِ - حقوقيّات من أجل العدالة الاجتماعيّة.
آنَ الأوان للتوقُّف عن التعامُل مع دمج النساء كشعار، والبدء بتطبيقه فعليًّا على أرض الواقع: في مواقع القيادة، في عمليّات التفاوض، وفي كلّ مكان تُصاغ فيه السياسات ويُعاد فيه تشكيل الواقع من جديد. الأمر لا يتعلَّق فقط بتمثيل نصف المجتمع، بل أبعد من ذلك، حيث يؤدّي تطبيق القرار إلى إدخال تصوّرات جديدة ورؤى أوسع لحلّ الصراعات. هناك الكثير من النساء الموهوبات من خلفيّات ومجموعات سكّانيّة متنوّعة، يمكنهن أن يُساهمْنَ في هذه العمليّات، وكثيرات منهن يشاركْنَ فعلًا في العمليّات غير الرسمية (المسار الثاني – Track 2) الّتي تُعقَد باستمرار، وتشكّل الأساس للتسويات المستقبليّة (من بينهن نحو 15 امرأة قمنا بتدريبهن ومرافقتهن). من المهم أن يُسمَع صوتهن أيضًا على الطاولات الرسميّة، حيث يحملْنَ معهن خبرات حياتيّة، ومهارات متنوّعة، وتجارب ورؤى مميّزة، يمكنها أن تُسهِم في إثراء مسار الحلّ وتعزيزه.
هذا هو الوقت للعودة إلى الحديث عن السلام كمسار، كخيارٍ واعٍ، وكاعتراف متبادَل بحقوق الإنسان والمواطن، وبحقوق النساء، وبألم الآخر، ومن منطلق إنساني. العودة للحديث عن السلام من أجل جميع سكّان هذه البلاد، ومن موقع يرى بخطاب السلام سيرورةً لبناء حصانة مجتمعيّة متجدِّدة للمجتمع بأسره.
في هذا العام، نتطلّع إلى إحداث تحوُّلٍ جوهري في اتّجاه الخطاب السياسي والأمني والاجتماعي، نحو خطابٍ جديد يقوم على السلام والرفاه والأمن. نطالب برؤية حضور أوسع وتمثيل متنوّع للنساء في القيادة وفي مراكز صياغة الخطاب السياسي-الأمني، وندعو الحكومة إلى إعداد خطّة عمل واضحة لتنفيذ القرار 1325، ودمج نساء من كافّة المجموعات السكّانيّة ضمن الوفود الدبلوماسيّة. كما نؤكّد على ضرورة أن يُسمَع صوت النساء في كلّ نقاش حول مستقبل هذه المنطقة، من أجل ضمان حياة أفضل وأكثر أمانًا لجميع سكّان هذه البلاد.
حول الكاتبتَيْن:
المحاميّتان حنان الصانع وإيلا ألون، مديرتان عامّتان شريكتان في جمعيّة إيتاخ مَعَكِ - حقوقيّات من أجل العدالة الاجتماعيّة.