الواقعية الدبلوماسية وخطة ترامب: بين البراغماتية وتجاهل العدالة
بقلم: محمد دراوشه
في عالم السياسة الدولية، تتكرر الأنماط وإن تغيرت الوجوه. الولايات المتحدة، التي لطالما تباهت بدورها القيادي في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، تعود اليوم إلى نهج “الواقعية الدبلوماسية” الضيقة، متخلية عن خطابها الأخلاقي لصالح مصالح استراتيجية آنية. هذا التحول ليس جديداً، بل يعيد إلى الأذهان سياسات هنري كيسنجر، الذي تبنى نهجاً صارماً في إدارة العلاقات الدولية، لكنه في نهاية المطاف لم يمنع تمدد النفوذ السوفييتي في أوروبا الشرقية.
كيسنجر آمن بأن السياسة الخارجية يجب أن تُبنى على المصالح القومية المجردة، متجاهلاً البعد الإنساني. في المقابل، جاء زبيغنيو بريجنسكي ليطرح رؤية أكثر إنسانية، ترى في القيم الديمقراطية مكوناً أساسياً لأي سياسة خارجية مستدامة. وبين هذين النموذجين، تتأرجح السياسة الأمريكية حتى يومنا هذا.
يتجلى هذا التأرجح بوضوح في خطة ترامب ذات الـ21 نقطة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي قُبلت بشكل مبدئي من قبل كل من إسرائيل وحماس. هذه الخطة، التي تبتعد عن حل الدولتين وتتبنى رؤية وظيفية تركز على إدارة النزاع، تعكس جوهر الواقعية الدبلوماسية: حلول عملية قابلة للتنفيذ، حتى لو كانت تفتقر إلى العدالة التاريخية أو الإنصاف السياسي.
لكن القبول لا يعني القناعة. فالموافقة المبدئية من الطرفين قد تكون نتيجة ضغط سياسي أو غياب البدائل، لا تعبيراً عن رضا حقيقي. تجاهل البعد الحقوقي والإنساني في هذه الخطة، خاصة في ظل استمرار الاحتلال والاستيطان، يُنذر بأن التسوية ستكون هشة، قابلة للانهيار عند أول اختبار.
في ظل هذا الواقع، على الفلسطينيين أن يدركوا أن الاعتماد على المجتمع الدولي وحده لم يعد كافياً. المطلوب هو بناء استراتيجية وطنية موحدة، تتجاوز الانقسامات الداخلية، وتعيد تعريف المشروع الوطني على أسس واقعية دون التخلي عن الحقوق التاريخية. كما يجب الاستثمار في أدوات القوة الناعمة: الإعلام، القانون الدولي، والمقاومة الشعبية السلمية، لتثبيت الرواية الفلسطينية في وجه محاولات التهميش.
أما الإسرائيليون، فعليهم أن يتجاوزوا منطق السيطرة العسكرية ويعيدوا التفكير في مستقبل العلاقة مع الفلسطينيين خارج إطار الهيمنة. الأمن الحقيقي لا يتحقق بالجدران والحواجز، بل بالاعتراف المتبادل والعدالة. تجاهل الحقوق الفلسطينية لن يؤدي إلى سلام، بل إلى دورة جديدة من العنف وعدم الاستقرار.
السياسة الأمريكية، في نسختها الواقعية الجديدة، تُعيد إنتاج أخطاء الماضي. فكما لم تمنع براغماتية كيسنجر التوسع السوفييتي، فإن تجاهل حقوق الفلسطينيين لن يُفضي إلى سلام حقيقي. بل قد يُكرّس حالة من “الاستقرار الزائف”، تُخفي تحتها غضباً شعبياً قابلاً للانفجار.
إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس مجرد نزاع حدودي، بل قضية إنسانية وسياسية عميقة. وإذا لم تُدمج القيم الحقوقية في أي تسوية، فإنها ستبقى مؤقتة، تُدار بالأمن لا تُحل بالعدالة. الواقعية ليست خطيئة بحد ذاتها، لكنها تصبح كذلك حين تُستخدم كذريعة لتبرير التجاهل المتعمد للكرامة الإنسانية.
في زمن تتراجع فيه المبادئ أمام المصالح، يبقى السؤال: هل يمكن للسياسة أن تكون واقعية وعادلة في آنٍ واحد؟ الجواب لا يكمن في الخطط التقنية، بل في الإرادة السياسية التي تضع الإنسان في قلب المعادلة، لا على هامشها.