السلام المعلّق بين شكوك النوايا ووهن الشريك
بقلم: محمد دراوشه
في كل مرة يُعاد فيها طرح “مبادرة السلام” أو “حل الدولتين”، يتجدد الجدل حول جدية الأطراف، وخصوصاً الطرف الإسرائيلي الذي يقوده اليمين منذ سنوات طويلة. التصريحات الأخيرة التي صدرت عن رئيس الحكومة الإسرائيلية حول قبوله بحل الدولتين، تبدو للوهلة الأولى وكأنها تحول سياسي، لكنها في جوهرها لا تتعدى كونها مناورة خطابية تهدف إلى امتصاص الضغط الدولي، لا سيما من البيت الأبيض الذي يسعى إلى إعادة ترتيب أوراق المنطقة بعد سنوات من الفوضى.
اليمين الإسرائيلي، الذي يسيطر على مفاصل الحكم، لم يُبدِ يوماً استعداداً حقيقياً للاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية. بل إن سياساته على الأرض – من توسع استيطاني، وتهويد للقدس، وحصار لغزة، ورفض لأي سيادة فلسطينية – تؤكد أن ما يُقال في العلن لا يعكس ما يُنفذ في الواقع. خطة “الـ21 نقطة” التي طُرحت مؤخراً تكشف هذا التناقض بوضوح، إذ تكرّس السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية، وتُبقي الفلسطينيين في حالة إدارة ذاتية محدودة، دون أي أفق لدولة مستقلة ذات سيادة.
لكن التشكيك في نوايا اليمين الإسرائيلي لا يُغني عن مواجهة الحقيقة المؤلمة في الجانب الفلسطيني. الانقسام بين الضفة وغزة، الذي بدأ كخلاف سياسي، تحول إلى شرخ وطني عميق أضعف المشروع الفلسطيني، وأفقده القدرة على التفاوض أو حتى على الصمود. غابت القيادة الموحدة، وتراجعت المؤسسات، وتآكلت الثقة الشعبية، حتى بات الحديث عن “شريك فلسطيني” في أي عملية سلام أمراً مشكوكاً فيه من قبل المجتمع الدولي نفسه.
هذا الوهن الفلسطيني لا يُعفي إسرائيل من مسؤولياتها، لكنه يضع عبئاً إضافياً على الفلسطينيين أنفسهم. فبدون وحدة وطنية، وقيادة شرعية، واستراتيجية واضحة، لا يمكن لأي مبادرة أن تنجح، ولا لأي ضغط دولي أن يُثمر. المبادرات التي تُطرح – سواء من أطراف دولية أو إقليمية – غالباً ما تفتقر إلى آليات تنفيذ واضحة، وتُبنى على فرضيات غير واقعية، مثل تجاهل قضية اللاجئين، أو القبول بالسيطرة الأمنية الإسرائيلية، أو اعتبار غزة ككيان منفصل.
النتيجة هي أن هذه المبادرات تتحول إلى أدوات دعائية، تُستخدم لتجميل الصورة أمام المجتمع الدولي، دون أن تُحدث أي تغيير حقيقي على الأرض. بل إن بعضها يُستخدم لتكريس الأمر الواقع، تحت غطاء “العملية السلمية”، التي باتت تُدار كملف إداري أكثر منها كقضية تحرر وحقوق.
ورغم هذا المشهد القاتم، لا يمكن إنكار وجود بعض المؤشرات التي تفتح نافذة صغيرة للأمل. فالتغيرات الإقليمية، وتزايد الإدراك الدولي بأن استمرار الاحتلال يُهدد الاستقرار، قد تدفع نحو إعادة صياغة المبادرة السياسية على أسس أكثر واقعية.
الدول العربية، على سبيل المثال، بدأت تربط علاقتها الاقتصادية والسياسية لإسرائيل بمدى التزامها بحل الدولتين، وهذا ما يمنع السعودية من التطبيع. كما أن بعض الأصوات داخل المجتمع الإسرائيلي بدأت تُدرك أن الأمن لا يتحقق بالقوة، وأن السلام الحقيقي يتطلب الاعتراف بالحقوق الفلسطينية.
أما على الجانب الفلسطيني، فهناك دعوات متزايدة لإعادة بناء المشروع الوطني على أسس جديدة، تتجاوز الانقسام، وتُعيد الاعتبار للتمثيل الشعبي، وتُفعّل أدوات المقاومة السياسية والدبلوماسية.
الطريق نحو السلام الحقيقي لا يزال طويلاً، ومليئاً بالعقبات. لكن الاعتراف بهذه العقبات هو الخطوة الأولى نحو تجاوزها. فالتشكيك في نوايا اليمين الإسرائيلي، والاعتراف بالوهن الفلسطيني، لا يعنيان الاستسلام، بل يدعوان إلى إعادة بناء المبادرة السياسية من جديد، على أسس واقعية، وبقيادة صادقة، وبإرادة شعبية حقيقية.
ربما لا تكون اللحظة الراهنة مثالية، لكنها تحمل في طياتها فرصة لإعادة التفكير، وإعادة البناء، والانطلاق نحو مستقبل لا يُدار بالشعارات، بل بالمواقف الجريئة والقرارات الصادقة.