في أعقاب الإعلان المشترك بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مبادرة "النقاط الـ21" لإنهاء الحرب في غزة، انطلقت موجة من ردود الفعل المتباينة داخل إسرائيل، أبرزها الهجوم الحاد من الوزير بتسلئيل سموتريتش، الذي وصف الخطوة بأنها "مأساة قيادة تهرب من البشارة". لكن ما يصفه سموتريتش بالهروب، هو في الحقيقة مراوغة سياسية مدروسة من نتنياهو، تهدف إلى تحسين صورته المهشّمة داخليًا وخارجيًا، لا إلى صناعة سلام حقيقي أو استجابة لمعاناة المدنيين. الفلسطينيين, أو حتى تحرير الأسرى الإسرائيليين.
نتنياهو لا يتبنى "النقاط الـ21" بدافع الشجاعة أو المسؤولية أو رغبته فجأة بالسلام، بل بدافع المصلحة الشخصية. فهو يسعى لإرضاء الرئيس ترامب، الذي يضغط من أجل تنفيذ المبادرة، وفي الوقت ذاته يحاول تهدئة الدول التي بدأت تعترف بالدولة الفلسطينية، في محاولة لثنيها عن التقدم في هذا المسار. هذه المبادرة تُستخدم كأداة سياسية دبلوماسية لتجميل الموقف الإسرائيلي أمام المجتمع الدولي.
كما أن نتنياهو يسعى لخلق مسافة فاصلة بينه وبين اليمين المتطرف، تمهيدًا للانتخابات المقبلة للكنيست في عام 2026، حيث يأمل في استقطاب اليمين الليبرالي الذي بدأ يتململ من سياسات التصعيد والتعنت في ظل مطالبة غالبية الإسرائيليين بإنهاء الحرب. "النقاط الـ21" تُقدَّم كغطاء انتخابي، لا كخطة سلام. ومن الواضح أن نتنياهو يحاول تحسين صورته المشوهة، بعد أن التصقت به تهم جرائم الحرب، من محكمة العدل الدولية إلى ساحات المظاهرات الداعمة للفلسطينيين في عواصم العالم. المبادرة تُقدَّم كغطاء سياسي لتلميع هذه الصورة، لا كاستجابة إنسانية حقيقية لمعاناة المدنيين في غزة أو لحاجة أمنية إسرائيلية.
أما رفض سموتريتش للمبادرة، فهو ليس دفاعًا عن الأمن، بل تمسك برؤية متطرفة لا ترى سوى القوة كحل، وتخشى أي انفتاح سياسي قد يُضعف قبضتها على الضفة الغربية. خطابه المليء بالتحذيرات من "عودة أوسلو" و"خطر الشرطة الفلسطينية" و"وهم السلام مقابل المال" يعكس عقلية ترفض أي تغيير، حتى لو كان في صالح أمن الإسرائيليين أنفسهم. هو يرفض إشراف دولي، ويشكك في قدرة أي جهة على منع حماس من إعادة بناء قوتها، لكنه لا يقدم بديلاً واقعيًا سوى استمرار الاحتلال والتصعيد, وتعميق الاستيطان والإستيلاء على الأراضي الفلسطينية, ومقدرات الشعب الفلسطيني.
وفي الوقت الذي يهاجم فيه سموتريتش فكرة إشراك السلطة الفلسطينية أو الدول العربية في إدارة المرحلة المقبلة، يتجاهل أن استمرار الحصار والدمار لم يحقق الأمن، بل عمّق الكراهية وأنتج أجيالًا جديدة من الغضب الجامح. "النقاط الـ21"، رغم عيوبها، تفتح نافذة للنقاش السياسي، لكنها تُستخدم من قبل نتنياهو كأداة دعائية، ومن قبل سموتريتش كفزاعة أيديولوجية، ما يجعلها رهينة للصراعات الداخلية، لا بوابة نحو السلام.
اللافت أن ترامب لم يقدّم المبادرة كخطة قابلة للتفاوض، بل كأمر واقع. تصريحاته تشير إلى أنه لن يطلب موافقة الأطراف، بل سيبلغهم بوجوب القبول. هذا الأسلوب يعكس رغبة في تقليص مساحة المناورة، وفرض رؤية أحادية لا تحتمل النقاش. وهو ما يضع الجميع أمام خيارين: القبول دون شروط، أو الاتهام بالعرقلة.
لكن بين مراوغة نتنياهو وتطرف سموتريتش، يضيع صوت العقل، ويُهمَّش الحل الحقيقي القائم على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال، وبناء مستقبل مشترك. "النقاط الـ21"، إذا أُعيدت صياغتها لتشمل ضمانات حقيقية للحقوق الفلسطينية، وإشراف دولي نزيه، قد تكون بداية لمسار جديد. أما إذا بقيت أداة انتخابية أو وسيلة لتصفية الحسابات الداخلية، فلن تكون سوى حلقة جديدة في مسلسل الفشل السياسي.
فالمطلوب ليس مبادرة تُرضي ترامب أو تُجمّل صورة نتنياهو, وتسترضي قطر وتركيا والباكستان، ولا رفضًا أيديولوجيًا يُرضي اليمين المتطرف، بل رؤية واقعية وشجاعة تعترف بأن الأمن لا يُبنى على القوة وحدها، وأن السلام لا يُصنع بالخطابات، بل بالاعتراف المتبادل، والعدالة، والكرامة الإنسانية المفقودة حتى هذه اللحظة في منطقتنا.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com