آخر الأخبار

أزمة الأخلاق العسكرية في إسرائيل – بين التبرير الرسمي والواقع الميداني

شارك

أزمة الأخلاق العسكرية في إسرائيل – بين التبرير الرسمي والواقع الميداني
بقلم: محمد دراوشه
في ظل التصعيد المستمر في الضفة الغربية وقطاع غزة، تتفاقم أزمة الأخلاقيات العسكرية داخل الجيش الإسرائيلي، وتحديداً في سلوك الضباط والجنود تجاه المدنيين الفلسطينيين. هذه الأزمة لم تعد محصورة في أروقة النقاش الأكاديمي أو الحقوقي، بل انفجرت في قلب الإعلام الإسرائيلي نفسه، مع الاتهامات الصريحة التي وجهها ناشر صحيفة "هآرتس"، عاموس شوكن، ضد قائد المنطقة الوسطى، أفي بلوت، واصفاً إياه بـ"مجرم حرب" وداعياً لمحاكمته في لاهاي.
شوكن، المعروف بمواقفه الليبرالية وانتقاداته الحادة للسياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، نشر تغريدة مثيرة على منصة X (تويتر سابقاً)، قال فيها: "مؤسف، لكن يتضح أن أفي بلوت هو مجرم حرب. يجب على المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أن تعتقله". هذه التصريحات جاءت في أعقاب تحقيق صحفي نشرته "هآرتس"، كشف أن الجيش الإسرائيلي اقتلع أكثر من 3,100 شجرة زيتون في قرية فلسطينية قرب مستوطنة "عادي عاد"، وذلك كرد فعل على محاولة طعن فاشلة.
ردود الفعل الرسمية لم تتأخر. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وصف الاتهامات بأنها "تحريض" و"افتراءات دموية معادية للسامية"، مؤكداً دعمه الكامل للجنرال بلوت، ومعتبراً أن الجيش الإسرائيلي يعمل "بمهنية وأخلاق لا تتزعزع". أما رئيس أركان الجيش أيال زامير، فقد أصدر بياناً شديد اللهجة، وصف فيه المقال بأنه "محرّض ومهين"، وأكد أن بلوت "ضابط قتالي من الطراز الأول، أخلاقي ويعمل ليل نهار من أجل أمن إسرائيل"، مشدداً على أن "الجيش سيواصل محاربة الإرهاب في الضفة الغربية مع الحفاظ على القانون والقيم".
لكن ما يجعل هذه الاتهامات أكثر خطورة هو أنها لم تصدر عن ناشط حقوقي أو منظمة دولية، بل عن ناشر واحدة من أعرق الصحف الإسرائيلية، ما يعكس تحولاً في المزاج الإعلامي الداخلي، وجرأة متزايدة في مساءلة المؤسسة العسكرية. فحين يتهم ناشر صحيفة بارزة قائداً عسكرياً بارتكاب جرائم حرب، ويطالب بمحاكمته دولياً، فإن ذلك لا يمكن تجاهله أو اعتباره مجرد رأي شخصي.
هذا التصعيد الإعلامي يسلط الضوء على التوتر المتزايد داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، بين من يرى أن الجيش يجب أن يُحاسب على أفعاله، وبين من يراه فوق النقد. كما يكشف عن أزمة أخلاقية عميقة في طريقة إدارة الصراع مع الفلسطينيين، حيث تُستخدم القوة العسكرية بشكل مفرط، وتُهمّش الاعتبارات الإنسانية، في ظل غياب آليات محاسبة حقيقية.
الكاتب جدعون ليفي، في مقاله الأخير، ذهب أبعد من ذلك، واصفاً بلوت بـ"أوبركومندنت" و"جنرال الدم"، مشيراً إلى أن الجيش يتعامل مع الفلسطينيين كأعداء دائمين، ويمنح الأفضلية للمستوطنين على حساب السكان الأصليين. ونقل عن بلوت قوله: "كل قرية تجرؤ على رفع يدها ضد المستوطنين ستُردع". هذا النوع من التصريحات، إن صح، يعكس عقلية عقابية جماعية تتناقض مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي.
إن استمرار هذا النهج لا يفضح فقط صورة إسرائيل الدولية، بل يضعف أيضاً ثقة مواطنيها في مؤسساتهم. فالأخلاق العسكرية ليست ترفًا، بل ضرورة استراتيجية في أي مجتمع يتغنى بالديمقراطية. وإسرائيل التي لا تُراجع سلوك جيشها، ولا تُحاسب من يتجاوز الحدود، تنزلق أخلاقياً في منحدر خطير، تتآكل فيه القيم التي تدّعي الدفاع عنها. فغياب المحاسبة لا يعني فقط تجاهل الانتهاكات، بل يعني شرعنتها، وتحويلها إلى جزء من العقيدة العسكرية والسياسية. حين تُقتلع آلاف الأشجار من قرية فلسطينية كعقوبة جماعية، وحين يُمنح ضباط الجيش حصانة سياسية وإعلامية رغم الاتهامات بارتكاب جرائم حرب، فإن ذلك لا يعكس فقط خللاً في منظومة العدالة، بل انهياراً في البوصلة الأخلاقية.
إن استمرار هذا النهج، دون مراجعة أو مساءلة، يعني أن إسرائيل تختار أن تكون دولة فوق القانون، لا دولة قانون. وهذا الخيار، مهما بدا مريحاً سياسياً، يحمل في طياته تكلفة أخلاقية وإنسانية لا يمكن تبريرها، ولا يمكن التعايش معها على المدى الطويل. لا يمكن بناء سلام حقيقي دون عدالة، ولا يمكن الحديث عن أخلاق في ظل احتلال. وما لم تُفتح ملفات المحاسبة بجدية، فإن الصراع سيبقى محتدمًا – ليس فقط بين إسرائيل والفلسطينيين، بل داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، بين من يطالب بالمحاسبة، ومن يكتفي بالتبرير.

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا