آخر الأخبار

إسرائيل تقتل الصحافيين الفلسطينيين ولكن لا يمكن اغتيال الحقيقة بقذيفة

شارك

- الصحافيون الفلسطينيون هم الاكثر جرأة وشجاعة في العالم

منذ أشهر طويلة تهاجم إسرائيل غزة بوحشية. حرب حوّلت القطاع من أكبر سجن مفتوح في العالم إلى اكبر مقبرة للأطفال، والشيوخ، والأطباء، والمعلمين، والصحافيين. بينما يفرض القانون الدولي حماية خاصة للصحافيين، فإن الواقع مختلف تماماً: ففي أقل من عامين قتلت إسرائيل أكثر من 240 صحافياً وإعلامياً فلسطينياً. وفي الوقت نفسه تتبع سياسة ممنهجة بمنع وصول الصحافيين الأجانب، فتحظر دخولهم إلى غزة والتغطية منها، على خلاف ما هو متبع في مناطق النزاع في العالم. هكذا تقوّض حرية الصحافة وتكشف عن خوفها من الحقيقة. فما الذي تريد إسرائيل إخفاءه؟

الصحافي البريطاني بيرس مورغان يكرر سؤاله: لماذا تمنعون الصحافيين الأجانب من دخول غزة؟ سؤال يتجاوز حدود الاستوديوهات، ويجد صداه في الساحة الدبلوماسية، إذ طالبت أكثر من 30 دولة إسرائيل بالسماح للصحافيين بالدخول والتغطية من الميدان. الهدف بسيط وواضح: الشفافية، التوثيق، والحقيقة.

لكن إسرائيل تواصل الإصرار. تختار الظلال، تعتيم الصورة، منع شهادة مستقلة، والتمسك بالكذب والإخفاء. بيد واحدة تمنع الكاميرات الأجنبية، وبالأخرى تغتال الكاميرات المحلية “المشتبه بها”، أي الصحافيين الفلسطينيين الشجعان. هؤلاء الذين قرروا البقاء في أرض الحرب معرضين حياتهم وحياة أسرهم للخطر، واختاروا الكاميرا أو الميكروفون بدلاً من السلاح، وصوتهم بدلاً من الرصاص، لينقلوا للعالم قصة غزة، ويوثقوا الواقع المروع مباشرة من قلب الحدث.

الصحافيون الفلسطينيون في غزة هم الأجرأ في العالم، لأن كل واحد منهم يعيش وعلى ظهره هدفاً مرسوماً. مهمتهم أن ينقلوا للعالم فظائع الحرب وجرائمها. يخرجون “مسلحين” بالكاميرا، في مواجهة قوة عسكرية جبارة، طائرات حربية، دبابات، قناصة ومسيرات. وهم يدركون تماماً أن عودتهم غير مضمونة. ومع ذلك يواصلون منذ قرابة عامين، نهاراً وليلاً، لأنهم في مهمة جماعية لشعب بأسره: ترك شهادة تاريخية لما يحدث في غزة. هذه ليست صحافة مهنية فحسب، بل صحافة تضحية. كثير منهم يترك وصية مكتوبة، وبعضهم يختمها بنداء: واصلوا نقل قصة غزة. إنهم يعرفون أنهم يعيشون على وقت مستعار.

الأمثلة مأساوية ومتكررة. هذا الأسبوع، أصابت قذيفة إسرائيلية بشكل مباشر مبنى في مستشفى ناصر بجنوب غزة، فقتل نحو 20 شخصاً. وعندما هرعت الطواقم الطبية والإنقاذ لمعالجة الجرحى، سقطت قذيفة ثانية أصابتهم مباشرة. قُتل خمسة صحافيين في المكان، وأربعة مسعفين، إضافة إلى مدنيين آخرين. التبرير الإسرائيلي كان مخزياً: “تم رصد كاميرا مشبوهة على السطح”. كاميرا مشبوهة! أي أن الكاميرا باتت صاروخاً، والصحافي “إرهابياً”. هذا انقلاب على المنطق. وبحسب القانون الدولي، يعد ذلك جريمة جسيمة، لأنه يحوّل المسعفين والصحافيين إلى أهداف عسكرية “مشروعة”. وتحت ضغط النقد الدولي، اضطر نتنياهو لتأتأة اعتذار باهت بالإنجليزية، لجمهور خارجي.

الصحافة الإسرائيلية بمعظمها صمتت أمام هذه الجريمة. بعض الصحافيين لم يكتفوا بالصمت بل برروا وشجعوا. كذلك لم يسارع أطباء إسرائيليون للتنديد بتدمير المنظومة الصحية في غزة أو بقتل زملائهم هناك. بل في بداية الحرب، وقع عشرات الأطباء الإسرائيليين على عريضة تطالب جيش الاحتلال بقصف مستشفى الشفاء. نعم، أطباء دعوا إلى قصف مستشفى. هذا انحدار مهني وأخلاقي لم يشهد العالم مثيلاً له.

يوماً ما ستنتهي الحرب، وسيُروى بفخر وبطولة قصة الصحافيين الغزيين. السؤال هو: كم منهم سيدفع حياته ثمناً؟

الصورة واضحة: إسرائيل تحاول محو غزة وسكانها، والحقيقة عما يجري فيها. تمنع شهود العيان من الخارج، وتغتال الشهادات من الداخل. إنها جريمة مزدوجة: منع المعلومات وقتل من ينقلها. عندما تقتل دولة صحافيين بشكل ممنهج، فهي تقول للعالم: “نحن فوق القانون، لنا أن نفعل ما نشاء”. أو كما قالت وزيرة في حكومة الرعب هذه في سياق آخر: “من قال ما هو القانون؟”. هذه ليست جريمة حرب فحسب، بل محاولة لمحو مفهوم النقد الدولي والمسؤولية الأخلاقية. إنها جريمة بحق التاريخ وبحق من أرادوا منع تكرار مثل هذه الفظائع.

على الساحة الدولية، بدأ الصبر ينفد. مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة اعتبر الهجمات على الصحافيين في غزة جرائم حرب. منظمات الصحافيين العالمية تصف ما يحدث بأنه “أكبر مجزرة للصحافيين في التاريخ الحديث”. في العامين الأخيرين قُتل في غزة من الصحافيين أكثر مما قُتل في الحربين العالميتين، وفيتنام، ويوغسلافيا، وأفغانستان مجتمعة. للمقارنة: في حرب روسيا وأوكرانيا قُتل خلال ثلاث سنوات ونصف 18 صحافياً وإعلامياً فقط من الطرفين.

المسؤولية لا تقع على إسرائيل وحدها، بل أيضاً على المجتمع الدولي. إذا قُتل أكثر من 240 صحافياً ولم تتخذ إجراءات، فهذه فضيحة عالمية. يجب ألا يعتاد العالم على قتل الصحافيين كما اعتاد على قتل المدنيين في غزة. كل يوم صمت من المجتمع الدولي هو يوم يمنح إسرائيل ثقة بمواصلة حرب الإبادة ضد المدنيين والصحافيين.

رسالتي واضحة: لا يمكن اغتيال الحقيقة بقذيفة، ولا إسكاتها بغارة جوية. الحقيقة أقوى، والعالم يرى ويعرف. لا يمكن منع الحقيقة من الخروج إلى العالم. يوماً ما ستصمت المدافع، وستُروى قصة بطولة الصحافيين الغزيين بفخر. إسرائيل تريد إسكات الحقيقة، ولكن الحقيقة لا تُقصف ولا تُمحى. حتى إن تمت اعاقتها مؤقتاً، ستجد طريقها إلى العلن. السؤال: كم من الصحافيين يجب أن يضحوا بحياتهم قبل أن يستيقظ العالم؟

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا