آخر الأخبار

الوساطة والإصلاح في المجتمعات: بين الدراية الإنسانية وقيود الجهل

شارك

الوساطة الاجتماعية والسياسية والفكرية هي أداة قديمة، لكنها ما تزال حيوية في حل النزاعات وإعادة التوازن للمجتمعات التي تحرص على الفهم الإنساني والعقلانية. تُعرف الوساطة بأنها عملية يسعى فيها طرف ثالث محايد إلى تسهيل الحوار بين أطراف النزاع، للوصول إلى حلول مرضية وفاعلة دون اللجوء إلى الصراع المباشر أو العنف.


1. أهمية الوساطة في المجتمعات المتعلمة..
في المجتمعات التي تُجيد الدراية والفهم الإنساني، تعمل الوساطة على عدة مستويات:
المستوى الاجتماعي: تعزيز التفاهم بين الأفراد والعائلات والجماعات، وتقليل الانقسامات والصراعات اليومية.
المستوى السياسي: تسهيل الحوارات بين الأحزاب والفصائل، بما يحافظ على الاستقرار ويحول دون تفاقم النزاعات.
المستوى الاقتصادي: حل الخلافات التجارية أو المتعلقة بالميراث أو العقود بين الأطراف المختلفة، بما يحافظ على الإنتاجية والثقة المتبادلة.
الأبحاث في علم الاجتماع والسياسة تؤكد أن المجتمعات التي تحترم القيم الإنسانية مثل العدالة، والرحمة، والصدق، يكون لديها استعداد أكبر لتقبل الوساطة، وتطبيق نتائجها بفعالية. على سبيل المثال، تجربة لجان الصلح التقليدية في فلسطين أو المجتمعات القبلية في بعض الدول العربية تظهر أن النجاح يرتبط مباشرة بدرجة الوعي والثقافة العامة، وليس فقط بهيكلية اللجنة أو قوة القوانين.

2. قيود الوساطة في المجتمعات المحدودة الوعي
في المقابل، المجتمعات التي يسيطر عليها الجهل، وحب التملك، والانغلاق الطبقي أو البرجوازي تواجه تحديات كبيرة أمام نجاح الوساطة. الأسباب تشمل:
ضعف الثقة بالوسطاء: عندما يسيطر التنافس أو التفرقة الطبقية، لا يُنظر إلى الوسيط على أنه محايد.غياب القيم الإنسانية المشتركة: مثل العدالة أو الرحمة، ما يجعل الأطراف غير مستعدة للتنازل أو الاعتراف بحقوق الآخر.
التمسك بالسلطة والمال: المجتمعات التي تعيش وفق ثقافة التملك أو البرجوازية غالبًا ما ترى الوساطة تهديدًا لمكاسبها، وتفضل الاستمرار في الصراع أو فرض الرأي بالقوة.
دراسة مقارنة حول تجارب الإصلاح المجتمعي في بعض المناطق الريفية في الشرق الأوسط أظهرت أن الوساطة فشلت في كثير من الحالات عندما كانت المجتمعات غير مطلعة على حقوقها أو مفاهيم العدالة الاجتماعية، بينما نجحت في مناطق أخرى أكثر تحضرًا، حيث القيم الإنسانية مؤطرة بالتعليم والوعي.

3. شروط نجاح الوساطة والإصلاح

يمكن تلخيص شروط نجاح الوساطة في أي مجتمع، مهما كان، في النقاط التالية:
حضور فهم إنساني عميق: إدراك الطرفين لطبيعة حقوقهما وواجباتهما تجاه الآخرين.
حياد الوسيط: ألا يكون متحيزًا لأي طرف، بل قادرًا على إدارة الحوار بشكل موضوعي.
التثقيف والتوعية المسبقة: تعليم المجتمع أهمية التسامح والعدالة والرحمة قبل محاولة الوساطة.وجود قنوات للتطبيق والمتابعة: لكي لا تصبح الوساطة مجرد كلام، بل لها أثر عملي مستدام.

4. "خلاصة"
الوساطة أداة فعالة، لكنها ليست سحرًا يُطبق على أي مجتمع بلا تحضير أو وعي. المجتمعات التي تجيد الدراية والفهم الإنساني تستفيد منها بشكل كبير، وتحقق إصلاحًا حقيقيًا ومستدامًا. أما المجتمعات التي يسودها الجهل وحب التملك والانغلاق الاجتماعي أو الطبقي، فإن نجاح الوساطة يكون محدودًا، ويحتاج إلى تأهيل ثقافي وتعليمي طويل المدى قبل أن يصبح قابلاً للتطبيق.

"خاتمة"
إن أدوات الصلح في المجتمع العربي – على الرغم من حسن النية أحيانًا – تفتقر في جوهرها إلى الأساسيات التربوية والتنشئة القيمية منذ المراحل الأولى للنشوء الاجتماعي. فغياب التربية على العدالة، والرحمة، والاعتراف بالآخر جعل الوساطة أداة شكلية أكثر منها إصلاحية. ومع تحكم رأس المال والموارد المالية في مفاصل المجتمع، تحولت مسارات الوساطة والإصلاح إلى ساحات نفوذ ومصالح، بدل أن تكون منصات عدالة وإنصاف. من هنا يتضح أن أي مشروع إصلاحي لا يستند إلى ثقافة الانتماء الجمعي، وإلى بناء إنساني راسخ، يبقى مشروعًا هشًّا محكومًا بالفشل منذ بدايته، مهما تغيّرت صوره أو تعددت محاولاته

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا