في قلب الصراع الدموي المستمر في غزة، والعربدة الاحتلالية المتصاعدة في الضفة الغربية، تتكشف ملامح أزمة قيادة عميقة في إسرائيل، أزمة لا تتعلق فقط بسوء التقدير العسكري أو الفشل السياسي، بل بانحراف جوهري في بوصلة القرار الوطني. إذ تهيمن المصالح الشخصية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على مستقبل الأمن القومي الإسرائيلي، بل وعلى مستقبل الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها. فبدلاً من أن تكون القرارات العسكرية والدبلوماسية نابعة من اعتبارات استراتيجية وطنية، يوجه نتنياهو دفة السياسة الإسرائيلية وفقاً لمصالحه السياسية الضيقة، مدفوعاً برغبة جامحة في البقاء في السلطة، حتى لو كان الثمن استمرار الحرب، وتفاقم المعاناة الإنسانية، وتآكل الثقة الداخلية والدولية في إسرائيل.
هذا التوجه الشخصي في إدارة الصراع لا يظهر فقط في الميدان، بل يتجلى في كل قرار مؤجل، وكل مبادرة مفقودة، وكل فرصة ضائعة لوقف إطلاق النار أو التفاوض على تسوية إنسانية. عاموس يادلين, أحد أبرز المحللين الأمنيين في إسرائيل، والذي شغل مناصب رفيعة في المؤسسة العسكرية، أشار في مقابلة إذاعية إلى أن نتنياهو لا يتصرف وفق رؤية استراتيجية واضحة، بل يعتمد على "كسب الوقت" كأداة سياسية. هذا التوجه ينعكس في تردده باتخاذ قرارات حاسمة مثل إرسال وفود تفاوضية أو تحديد وجهة المفاوضات، مما يثير الشكوك حول مدى جدية الحكومة في إنهاء الحرب أو التوصل إلى حلول إنسانية عاجلة.
لكن الصورة لا تكتمل دون النظر إلى الدعم الخارجي الذي يتلقاه نتنياهو، وعلى رأسه العلاقة الوثيقة مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. هذا التحالف لم يكن مجرد تقارب سياسي، بل تحوّل إلى التقاء مصالح بين زعيمين يسعيان إلى ترسيخ سلطتهما عبر ملفات خارجية مثيرة للجدل. فقد منح ترامب لنتنياهو هامشاً واسعاً من المناورة السياسية، سواء من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو عبر دعم غير مشروط في المحافل الدولية، مما عزز من موقع نتنياهو الداخلي وأضعف أي ضغط خارجي عليه.
هذا "الحبل السياسي الطويل" الذي وفره ترامب مكّن نتنياهو من تجاهل الرأي العام الإسرائيلي وحتى المؤسسة العسكرية، والاستمرار في سياسات تصعيدية دون مساءلة حقيقية. فبدلاً من استغلال الفرص المتاحة لوقف إطلاق النار، والتي قد تفضي إلى إطلاق سراح عدد من الأسرى، تفضل الحكومة الإسرائيلية تجاهل هذه الأوراق الرابحة، رغم أن الفصائل الفلسطينية أبدت استعداداً للتفاوض على قضايا جوهرية مثل إعادة الإعمار، وتقديم تنازلات في الحكم المدني، وحتى السماح بزيارات الصليب الأحمر للأسرى.
الانتقادات الموجهة لنتنياهو لا تتوقف عند غياب المبادرة، بل تمتد إلى تجاهله المتعمد للرأي العام الإسرائيلي، وحتى لرئيس هيئة الأركان نفسه. هذا التجاهل يعكس أزمة ثقة داخلية، حيث يشعر كثيرون أن نتنياهو لم يعد يمثل مصالح الدولة، بل مصالحه الشخصية فقط. وفي ظل هذا الواقع، يصبح من المشروع التساؤل: هل تسعى القيادة الإسرائيلية فعلاً إلى إنهاء الحرب؟ أم أن استمرارها يخدم أجندة سياسية ضيقة؟
الفرصة المتاحة الآن لوقف إطلاق النار المؤقتة، والتي قد تفضي إلى إطلاق سراح عدد من الأسرى، تُعد ورقة ضغط قوية بيد إسرائيل. ومع ذلك، فإن الحكومة لا تستغل هذه الورقة كما ينبغي، رغم أن الفصائل الفلسطينية أبدت استعداداً للتفاوض على قضايا جوهرية. هذا التردد في بدء المفاوضات يعكس غياب الإرادة السياسية، وليس غياب الإمكانيات.
في النهاية، فإن استمرار الحرب في غزة والضفة لا يمكن فصله عن الحسابات السياسية الداخلية والخارجية لنتنياهو. فبينما يعاني المدنيون من ويلات القصف والحصار، وبينما تتزايد الضغوط الدولية لوقف إطلاق النار، يظل القرار الحقيقي رهيناً لرغبة رئيس الوزراء في البقاء السياسي، مدعوماً بتحالفات دولية تمنحه الغطاء اللازم. هذه المعادلة الخطيرة لا تهدد فقط فرص السلام، بل تضع مستقبل المنطقة بأكملها في مهب الريح.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com