آخر الأخبار

الإدمان الرقمي... حياة مسروقة خلف الضوء الأزرق

شارك

كاتب المقال: د. أحمد كامل ناصر

في زمن تحوّل فيه الهاتف الذكي إلى "رفيق دائم"، لم يعد الحديث عن الإدمان الرقمي قضيّة هامشيّة، بل ضرورة اجتماعية وثقافية. فالشاشات اليوم لا تكتفي بملء وقت الفراغ، بل تتسلل إلى تفاصيل الحياة اليوميّة، حتى صرنا نقيس لحظاتنا بعدد الإشعارات والرسائل والتنبيهات، ويُقاس نجاحنا بعدد الاعجابات"اللايكات" والمتابعين.

الإدمان الرقمي لا يقتصر على المراهقين وحدهم، بل أصبح ظاهرة عابرة للأعمار، من الأطفال الذين يقضون ساعات أمام الألعاب الإلكترونية، إلى الكبار الذين يجدون أنفسهم أسرى شبكات التواصل الاجتماعي.

الأضرار الصحيّة والنفسيّة لهذا الإدمان متعددة. على مستوى الصحة النفسيّة، يؤدي التصفح المفرط إلى القلق والاكتئاب، خصوصًا عندما تتحول المقارنة المستمرة بالآخرين إلى مقياس للقيمة الذاتية. أما على مستوى التركيز والإنتاجية، فإنّ التنقل المتكرر بين التطبيقات يضعف القدرة على التفكير العميق ويؤثر سلبًا على التحصيل الدراسي والإنجاز المهني. جسديًا، تترك الساعات الطويلة أمام الشاشة آثارًا واضحة: آلام في الظهر والرقبة، ضعف في النظر، واضطرابات في النوم نتيجة التعرض المستمر للضوء الأزرق. وحتى العلاقات الاجتماعية لم تسلم؛ فالحضور الرقمي طغى على التفاعل الإنساني المباشر، وأصبحت الجلسات العائلية في كثير من الأحيان صامتة، يشارك فيها كل فرد مع هاتفه أكثر مما يشارك مع من حوله.

أما الألعاب الإلكترونية، فقد تجاوزت دور التسلية لتصبح عوالم بديلة يعيش فيها الكثير من المراهقين والشباب، يحققون انتصارات افتراضية بينما يخسرون فرصًا واقعيّة للتواصل أو التعلّم أو تطوير الذات.

لكن، ورغم قتامة الصورة، فإنّ الحلول ممكنة إذا توفّرت الإرادة والوعي. البداية تكون بالاعتراف بالمشكلة، فالتقليل من شأن الإدمان الرقمي يزيد من خطورته. بعد ذلك، يمكن وضع ضوابط عملية: تحديد أوقات يومية لاستخدام الأجهزة، تخصيص ساعات أو أيام "صيام رقمي" بعيدًا عن الشاشات، وتشجيع الأنشطة البديلة مثل القراءة، الرياضة، أو اللقاءات الاجتماعية الحقيقية. من المهم أيضًا ممارسة "اختيار المحتوى الواعي"، أي متابعة ما يضيف قيمة ويثري التجربة، بدلًا من الانغماس في كل ما يثير الانتباه لحظةً ثم يتلاشى أثره.

ويبقى للأسرة دور محوري؛ فالقدوة أساس التربية. إذا كان الأب أو الأم غارقين في هواتفهم، فلن يكون من السهل إقناع الأبناء بالابتعاد عن الشاشات. على العكس، حين يرى الأبناء والديهم يوازنون بين التكنولوجيا والحياة الواقعية، يسهل غرس هذه العادة في نفوسهم.

إنّ الإدمان الرقمي ليس قدرًا محتومًا، بل سلوك يمكن تغييره بالوعي والممارسة. التقنية ليست شرًا مطلقًا ولا خيرًا مطلقًا، بل أداة يتحدد أثرها بكيفية استخدامنا لها. قد تجعلنا أسرى شاشة إذا تركناها تهيمن على وقتنا، لكنها قد تفتح أمامنا آفاقًا واسعة للتعلم والتواصل والإبداع إذا تعاملنا معها بوعي وانضباط.

وفي النهاية، يبقى السؤال مطروحًا لكل واحد منا: هل نملك هواتفنا… أم أنها تملكنا؟

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا