آخر الأخبار

"العدالة المؤجلة: هل تستطيع إسرائيل محاسبة نفسها على جرائم غزة؟"

شارك

"العدالة المؤجلة: هل تستطيع إسرائيل محاسبة نفسها على جرائم غزة؟"

بقلم: محمد دراوشه

منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، والعالم يواجه مشهدًا مأساويًا يتكرر أمام أعيننا: آلاف القتلى، دمار شامل، ومأساة إنسانية غير مسبوقة. وفقًا لوزارة الصحة في غزة، قُتل أكثر من 60,000 فلسطيني حتى الآن، نصفهم من النساء والأطفال. آلاف آخرون لقوا حتفهم بسبب نقص الغذاء والدواء، بينما دُمرت البنية التحتية بشكل شبه كامل، حيث تشير صور الأقمار الصناعية إلى أن نحو 60% من المباني في القطاع قد تضررت أو دُمرت بالكامل. في ظل هذه الأرقام المفزعة، تبرز تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة إسرائيل على محاسبة نفسها على ما ارتُكب خلال هذه الحرب. هل يمكن لدولة أن تكون القاضي والمتهم في آنٍ واحد؟ وهل يمكن لنظام قضائي، مهما ادعى الاستقلال، أن يحقق في جرائم ارتُكبت باسم الدولة ذاتها؟

جالي باهراف-ميارا، المستشارة القانونية للحكومة الإسرائيلية، عُرفت بمواقفها الحادة ضد حكومة نتنياهو، خاصة فيما يتعلق بمحاولات تعديل النظام القضائي. لكنها، في المقابل، لم تعترض علنًا على سياسات الحرب في غزة، بما فيها خطة تهجير سكان القطاع إلى ما سُمي بـ"المدينة الإنسانية"، وهي خطة اعتبرها كثيرون جريمة حرب محتملة. رغم أن دورها يقتضي تقديم المشورة القانونية للحكومة بشأن شرعية أو عدم شرعية سياساتها، إلا أنها لم تُصدر أي اعتراض رسمي على قرارات مثل منع دخول الغذاء والدواء والوقود إلى غزة، أو التصريحات العلنية لبعض الوزراء الذين دعوا لطرد الفلسطينيين أو تجويعهم حتى الاستسلام. هذه السياسات، وفقًا للقانون الإسرائيلي والدولي، تُعد غير قانونية، ومع ذلك لم تُفتح تحقيقات رسمية بشأنها.

المجتمع الدولي لم يقف مكتوف الأيدي. المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بتهم تشمل استخدام التجويع كسلاح حرب، والقتل، والاضطهاد، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. كما اتهمت جنوب أفريقيا إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية، مستندة إلى تصريحات علنية من مسؤولين إسرائيليين وسياسات ميدانية أدت إلى كارثة إنسانية. ورغم أن نتنياهو وصف هذه الاتهامات بأنها "مدفوعة بكراهية معادية للسامية"، فإن الدفاع القانوني الإسرائيلي اعتمد على مبدأ "الاختصاص الذاتي"، أي أن الدول لها الحق في التحقيق في جرائم الحرب داخليًا، وأن المحكمة الجنائية الدولية يجب أن تتدخل فقط إذا فشلت الدولة في ذلك. لكن هل تحقق إسرائيل فعليًا في هذه الجرائم؟ وهل نظامها القضائي قادر على المحاسبة؟

الجيش الإسرائيلي يُشير إلى وجود آلية تحقيق داخلية تُعرف باسم ("آلية التقييم والتحقيق في الوقائع מנגנון לבירור ותחקור עובדות FFAM)، وهي وحدة مكونة من ضباط ذوي خبرة، مهمتها فحص "الحوادث الاستثنائية" على أرض المعركة. هذه الوحدة، وفقًا للجيش، مستقلة عن سلسلة القيادة، وتُقدم تقاريرها مباشرة إلى رئيس الأركان ومكتب المدعي العسكري العام. لكن منظمات حقوقية مثل "يش دين" تصف هذه الآلية بأنها "آلية تبييض"، مشيرة إلى أن 93% من الشكاوى التي قُدمت قبل الحرب لم تؤدِ إلى تحقيقات جنائية. حتى في الحالات التي تُفتح فيها ملفات، فإنها غالبًا ما تُغلق دون نتائج تُذكر، أو تُدفن في بيروقراطية بطيئة تستغرق سنوات. أحد الضباط الذين خدموا في غزة قال إن المحققين زاروا وحدته بعد حادثة قتل مدنيين، جمعوا المعلومات، ثم اختفوا دون متابعة. هذا النمط يتكرر في مئات الحالات، خاصة تلك التي لا تحظى باهتمام دولي أو إعلامي.

في الحالات التي تُعتبر فيها الأدلة كافية، تُحال القضايا إلى الشرطة العسكرية للتحقيق الجنائي. لكن هذه الوحدة تواجه مقاومة داخلية شديدة، بل وحتى عنفًا من الجنود. في يوليو 2024، عندما حاول المحققون التحقيق في اعتداء جنسي على أحد الأسرى في مركز احتجاز "سدي تيمن"، تعرضوا لهجوم من الجنود، واضطروا إلى ارتداء أقنعة لإخفاء هويتهم خوفًا من الانتقام. هذا الواقع يكشف عن ثقافة داخلية ترفض المساءلة، وتُفضل التستر على الانتهاكات بدلًا من مواجهتها. حتى داخل الجيش، هناك اعتراف بأن النظام مثقل وغير قادر على مواكبة حجم الاتهامات، وأن التحقيقات قد تستغرق سنوات طويلة، إن لم تُنسى تمامًا.

العدالة لا تُقاس بالنوايا، بل بالنتائج. وعندما تكون نتائج التحقيقات معدومة، أو محصورة في قضايا هامشية، فإن الحديث عن "قدرة إسرائيل على محاسبة نفسها" يصبح مجرد غطاء قانوني لواقع سياسي وأخلاقي مأزوم. وحتى الآن، لا توجد مؤشرات على محاكمات جدية أو إدانات لمسؤولين أو جنود تورطوا في انتهاكات جسيمة.

العدالة الحقيقية تتطلب إرادة سياسية وشجاعة أخلاقية لمواجهة الذات، لا مجرد آليات شكلية تُستخدم لتبرير الصمت. وإذا كانت إسرائيل ترفض تدخل المحكمة الجنائية الدولية بحجة "الاختصاص الذاتي"، فإن عليها أن تُثبت ذلك بالفعل، لا بالادعاء.
ما يزيد من تعقيد المشهد هو التداخل بين القانون والسياسة في إسرائيل. فالمؤسسة القضائية، رغم استقلالها النسبي، تخضع لضغوط سياسية متزايدة، خاصة في ظل حكومة يمينية تسعى لتقليص صلاحيات القضاء. إقالة المستشارة القانونية للحكومة في بداية الشهر رغم عدم قانونيها, بعد صراع طويل مع نتنياهو، تُعد مؤشرًا خطيرًا على تراجع استقلالية القضاء، وتحوّله إلى أداة سياسية. هذا التراجع يُضعف من قدرة إسرائيل على تقديم نفسها كدولة تحترم القانون الدولي، ويُعزز من حجج المطالبين بتدخل دولي لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في غزة.

في ظل هذا الواقع، لا يمكن للمجتمع الدولي أن يكتفي بالمراقبة أو إصدار بيانات الإدانة. المطلوب هو تحرك فعلي، قانوني وسياسي، لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب. لأن ترك الضحايا بلا إنصاف، هو دعوة مفتوحة لتكرار المأساة، ليس فقط في غزة، بل في أي مكان آخر يُستخدم فيه القانون كغطاء للانتهاكات. المحاكم الدولية، رغم بطئها، تُمثل أملًا للضحايا، ورسالة واضحة بأن الجرائم لا تُنسى، وأن العدالة، مهما تأخرت، يجب أن تتحقق.

إسرائيل اليوم أمام اختبار حقيقي: هل تستطيع أن تُحاسب نفسها بصدق؟ هل يمكن لنظامها القضائي أن يرتقي إلى مستوى الجرائم المرتكبة؟ الإجابة، حتى الآن، لا تبعث على التفاؤل. فالصمت الرسمي، والآليات البيروقراطية، والمقاومة الداخلية للتحقيقات، كلها تُشير إلى نظام عاجز عن مواجهة ذاته. العدالة لا تُبنى على الأقوال، بل على الأفعال. وإذا كانت إسرائيل تريد أن تُثبت أنها دولة قانون، فعليها أن تبدأ بمحاسبة من انتهكوا هذا القانون، لا أن تكتفي بتبريرهم.

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا