شهدت العقود الأخيرة ازديادًا ملحوظًا في أعداد المعلمات والمديرات في المدارس والمؤسسات التعليمية في الداخل الفلسطيني، وهو تحول يحمل أبعادًا اجتماعية وثقافية واقتصادية متشابكة، تركت آثارها العميقة على بنية المجتمع وطبيعة العلاقات داخله. ويمكن النظر إلى هذه الظاهرة بوصفها نتاجًا طبيعيًا للتغيرات الاجتماعية المتسارعة، ودليلًا على توسع فرص التعليم والعمل أمام المرأة الفلسطينية في الداخل، مما أسهم في إعادة صياغة أدوارها التقليدية، ودفعها نحو المشاركة الفاعلة في بناء المجتمع. فقد أتاح هذا الحضور النسائي الكثيف في سلك التعليم تحقيق توازن في المنظومة التربوية، إذ وفرت المعلمة والمديرة نموذجًا إنسانيًا واجتماعيًا قريبًا من الطالبات، قادرًا على تفهم خصوصيتهن النفسية والثقافية، الأمر الذي انعكس إيجابًا على مستوى التحصيل الدراسي والتكيف الاجتماعي.
إن دخول المرأة الفلسطينية في الداخل بقوة إلى ميدان التعليم لم يكن مجرد إضافة عددية، بل كان نقلة نوعية أثرت في طبيعة العملية التعليمية، حيث ساعدت على إثراء أساليب التدريس والإدارة المدرسية بإضفاء بعد وجداني وعاطفي على التفاعل داخل الصفوف وبيئة المدرسة، مما عزز مناخ الثقة والاحترام المتبادل. وعلى الصعيد الاجتماعي، كان لعمل المرأة في هذا المجال أثرٌ واضح في رفع مكانتها، وتعزيز دورها الاقتصادي في الأسرة، إذ أصبحت شريكة مباشرة في تحمل أعباء المعيشة، مما أدى إلى تغيّر أنماط الإنفاق، وتوسيع آفاق الأبناء من خلال رؤية نموذج الأم العاملة المتعلمة.
غير أن هذا التحول لم يخلُ من تحديات، إذ تفرض زيادة أعداد المعلمات والمديرات ضرورة إعادة النظر في سياسات التوظيف والتدريب، لتفادي الاكتفاء بالكم على حساب الكيف، وضمان توافق المؤهلات مع متطلبات الميدان التربوي. كما يثير الأمر تساؤلات حول التوازن بين أدوار المرأة المهنية والأسرية، خاصة في البيئات المحافظة داخل المجتمع الفلسطيني في الداخل، التي ما زالت تنظر إلى عمل المرأة خارج البيت بوصفه خروجًا عن الأدوار التقليدية.
وتجدر الإشارة إلى أن ارتفاع أعداد المعلمات والمديرات، إذا لم يصحبه ضبط إداري وأخلاقي صارم داخل المؤسسات التعليمية، قد يفتح الباب أمام مظاهر سلبية تمس صورة المرأة العاملة في التعليم ودورها الرسالي، خصوصًا في البيئات التي تضعف فيها معايير الانضباط والرقابة. فغياب الحزم في الالتزام بأخلاقيات المهنة أو تهاون الإدارات في متابعة السلوكيات قد يؤدي إلى تداخل غير منضبط بين الحياة الشخصية والمهنية، أو إلى فقدان المعلمة والمديرة لهيبتهما في نظر الطلاب والمجتمع، وهو ما ينعكس سلبًا على القيم التربوية، ويضعف الثقة بالمدرسة بوصفها بيئة آمنة للتنشئة السليمة. ومن هنا فإن أي توسع في حضور المرأة الفلسطينية في التعليم يجب أن يقترن بآليات واضحة لحماية رسالية المهنة، وضمان التزامها بالضوابط الأخلاقية والتربوية التي تصون مكانتها في المجتمع.
إن ازدياد أعداد المعلمات والمديرات في الداخل الفلسطيني، إذا ما أُحسن استثماره، يمكن أن يكون رافعة حضارية حقيقية، ليس فقط عبر تحسين جودة التعليم، بل أيضًا من خلال المساهمة في ترسيخ قيم المساواة والعدالة الاجتماعية، وبناء جيل أكثر وعيًا بقضايا النوع الاجتماعي ودور المرأة في الحياة العامة. ومن ثم فإن هذه الظاهرة تمثل فرصة لمزيد من الإصلاح الاجتماعي والثقافي، إذا ما صاحبها وعي مجتمعي وسياسات داعمة تضمن أن يكون حضور المرأة في المدرسة انعكاسًا لحضورها الفاعل في المجتمع بأسره.
الطيرة- 9.8.2025