آخر الأخبار

دور المعلم الفلسطيني في الداخل الإسرائيلي في بناء الوعي ومناهضة العنف المجتمعي

شارك

د. أحمد كامل ناصر -يشهد المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل الإسرائيلي تصاعدًا مقلقًا في مظاهر العنف المجتمعي، حتى بات هذا العنف بمثابة ظاهرة مستفحلة، تهدد البنية الأخلاقية والاجتماعية لمجتمع بأكمله. فمنذ بداية العام 2025 حتى نهاية شهر حزيران، تجاوز عدد ضحايا جرائم القتل حاجز 130 قتيلًا، ما يعكس صورة قاتمة لحالة تآكل القيم وتراجع شعور الأمان الجمعي، ويطرح تساؤلات جدية حول مسؤولية الفاعلين الاجتماعيين، وعلى رأسهم المعلمون والمعلمات، في التصدي لهذه الأزمة. في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى إعادة تأمل موقع المعلم الفلسطيني داخل المنظومة الاجتماعية، ليس فقط كمقدم للمعرفة، بل كفاعل ثقافي وقيمي، قادر على بناء الوعي وتحصين الأجيال الناشئة ضد ثقافة العنف والتفكك.

المعلم الفلسطيني في الداخل، بما يحمله من وعي مركب ناتج عن موقعه الهوياتي والسياسي، يمتلك قدرة فريدة على قراءة الواقع، وفهم تحوّلاته، والتفاعل معه بصورة خلاقة. فهو لا يقف عند حدود المناهج والكتب المدرسية، بل ينخرط، بوعيه وسلوكه، في صياغة خطاب تربوي يقوم على الاحترام، والانتماء، والنقد المسؤول. مثل هذا المعلم لا يُلقّن الطلاب أجوبة جاهزة، بل يدرّبهم على طرح الأسئلة، وعلى التفكير المستقل، وعلى الانخراط الواعي في المجتمع بوصفهم شركاء في تغييره لا مجرّد مستهلكين له.

الوعي الذي يبنيه المعلم في طلابه ليس وعيًا سياسيًا فئويًا، ولا خطابًا تعبويًا مؤقتًا، بل هو وعي إنساني شامل، يتأسس على احترام الذات والآخر، وعلى فهم تعقيدات الواقع من دون الانجرار وراء العنف كوسيلة للتعبير أو الاحتجاج. إن قدرة المعلم على تمكين طلابه من التفكير النقدي، واحتضان اختلافاتهم، وتوجيه طاقتهم نحو الإبداع والمعرفة، تمثل حصانة ضد انزلاقهم إلى مسارات سلبية ومدمّرة.
وتتضاعف أهمية المدرسة بوصفها الإطار الجامع لمختلف الشرائح المجتمعية، خاصة في سياق الأقلية الفلسطينية في الداخل، حيث تكاد تكون المدرسة المساحة العامة الوحيدة التي تمارس فيها الأجيال الناشئة تفاعلاتها اليومية ضمن بيئة منظمة. لذا، فإن المدرسة لا يمكن أن تظل محصورة في دورها الأكاديمي التقليدي، بل لا بد أن تصبح فضاءً حيويًا لإنتاج الثقافة المدنية، وتعليم آليات إدارة الخلاف، وترسيخ مفاهيم التعددية، واللاعنف، والانتماء الجماعي.
من خلال تطوير برامج تربوية تدمج قيم التسامح وقبول الآخر، وتخصيص حصص وأنشطة تفاعلية تهدف إلى تعزيز الحوار وفهم الذات والواقع، يمكن للمدارس أن تتحول إلى ورش عمل تربوية تنتج أفرادًا قادرين على المساهمة الفعلية في بناء مجتمع أقل عنفًا وأكثر تماسكًا. ولتحقيق ذلك، لا بد من إشراك المعلمين في وضع سياسات التعليم، وتدريبهم على مهارات إدارة الصف بطريقة تُعزّز مناخ الأمان والانضباط الذاتي، لا القمع والخوف.
أما المعلمة، فهي تحمل في هذا السياق خصوصية إضافية، إذ تزاوج بين دورها المهني كمعلمة داخل الصف، ودورها الاجتماعي كأم ومربية وفاعلة ثقافية داخل الأسرة والمجتمع. في كثير من الأحيان، تتعلم الطالبات من المعلمة كيف تكون المرأة مستقلة، واثقة، قادرة على التعبير عن رأيها والتفاعل مع العالم بصورة فاعلة. كما تلعب المعلمة دورًا محوريًا داخل الأسرة، في نقل قيم الاحترام والحوار والتعاطف إلى أولادها، وتشكيل وعيهم تجاه أنفسهم والآخرين.
إن تمكين المعلمات فكريًا ومهنيًا، وتوفير بيئات عمل داعمة وآمنة لهن، ليس فقط خطوة نحو العدالة التربوية، بل هو استثمار مباشر في الحصانة النفسية والاجتماعية للمجتمع. فالمعلمة الواعية تشكل، في كل بيت ومدرسة، نقطة توازن قد تمنع انزلاق الأسرة أو الطالب إلى دوائر العنف أو العزلة أو الانفجار.
إن العنف لا ينشأ من فراغ، بل هو غالبًا نتيجة شعور بالإقصاء، أو غياب فرص التعبير، أو انعدام الأفق. وعندما لا يجد الشاب من يستمع إليه، أو يحتضن قلقه، أو يفسح له مجالًا للمشاركة، قد يتحول إلى العنف وسيلة لإثبات وجوده. هنا تحديدًا يظهر دور المعلم المثقف، القادر على رصد التحولات النفسية والسلوكية لطلابه، والتدخل في الوقت المناسب، من خلال التوجيه والتواصل مع الأهل، أو عبر ربط الطلاب بمؤسسات الدعم المجتمعي.
تُعدّ هذه الأدوار وقائية بامتياز، لأنها تسبق لحظة الانفجار، وتعمل على تفكيك دوافع العنف قبل أن تتبلور سلوكًا مدمّرًا. المعلم في هذا الإطار لا يكون مربيًا فحسب، بل حلقة وصل بين الطالب والعائلة، بين المدرسة والمجتمع، بين الفرد والمؤسسة، وبين الذات والآخر.
لكن لا يمكن للمعلم أن يؤدي هذه الأدوار دون وجود رؤية استراتيجية مجتمعية تعترف بمكانته كقائد ومثقف. فالمجتمع الذي يهمّش معلميه، ولا يمنحهم الأدوات اللازمة للعمل، ولا يستمع إلى صوتهم في صياغة السياسات، هو مجتمع يحرم نفسه من أحد أهم أدوات الإصلاح. لا بد إذًا من إعادة الاعتبار للمعلم والمعلمة كمحورين في عملية التغيير، عبر تعزيز ظروفهم المهنية والمعنوية، وتوسيع مجالات تطويرهم المهني، بحيث تشمل مهارات التربية على اللاعنف، والذكاء العاطفي، وإدارة الأزمات، ومرافقة الطلاب نفسيًا واجتماعيًا.
في زمن تتعالى فيه أصوات العنف، وتنهار فيه منظومات القيم بسرعة، يبقى صوت المعلم صوتًا ضروريًا، لا لأنه الأعلى، بل لأنه الأعمق. هو صوت لا يتكلم كثيرًا، لكنه لا يصمت أبدًا. هو من يزرع الكلمة الأولى في عقل طالب، وينير الفكرة الأولى في درب التغيير. ومن هذا الصوت تبدأ رحلة استعادة الأمل، لا بصفتها حلمًا رومانسيًا، بل باعتبارها مشروعًا اجتماعيًا مقاومًا.

الطيرة – 3.8.2025

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا