كاتب المقال: رئيس مجلس كابول المحلّي- نادر طه
صرخة "بدّي أهاجر، بدّي أترك البلاد وأهجّ"، والّتي بتنا نسمعها تتردّد كثيرًا على ألسنة شبابنا هذه الأيّام، ليست مجرّد نزوة ولا ترفٍ فكري. إنّها عرضٌ صارخ لمأساة حقيقيّة، حين تعيش في وطنٍ يُفترَض أن يحتضنك، وحين يتحوّل العناق إلى خناق، ويجد المواطن العربي نفسه أمام معادلة مستحيلة، معادلة فظّة قاسية لا رحمة فيها ولا منطق إنساني: إمّا أن يُدفَع نحو عالم الجريمة والعنف، لا رغبةً في ذلك، بل هربًا من فراغ الحماية؛ أو أن يعيش منقوص الكرامة، صامتًا في وجه الإهانات؛ وإمّا أن يترك بيته وبلاده بحثًا عن أدنى مقوّمات حقوق الإنسان.
ليست هذه نبرة تشاؤميّة بقدر ما هي توصيف للحال، وجرد حسابٍ واقعي لنزيف مجتمع يئنّ شبابه تحت وطأة اللامبالاة الرسميّة. هذا الحال الّذي تُثبت سطوره كلّ نشرة أخبار، وكلّ جنازة شاب، وكلّ عيون أمّ ترتقب عودة ابنها من زقاقٍ لا قانون فيه إلّا قانون "مَنْ يتغدّى بِمَنْ قبل العشاء!".
حين يُترَك المواطن في مواجهة الخطر وحده، بلا مؤسّسات تحميه ولا دولة، ولا ثقة بقانون ولا شرطة، فإنّه إمّا أن يُسلّم نفسه للضعف، أو يبحث عن حماية بديلة، وغالبًا ما تكون تلك الحماية من ذات الأدوات الّتي يُفترَض أن تُحارَب: السلاح والعصبيّة القبليّة والمنظومة الخارجة عن النظام. الجريمة في أغلب الحالات ليست خيارًا واعيًا عند الشاب العربي، بل هي ردّ فعلٍ على الفراغ الّذي يخلّفه تقاعس الدولة، ومَخرَجٌ من العجز بدافع البقاء والحماية. ورغم يقينه أنّ هذا المخرج مُدمِّر، فإنّه يدخله ليتفادى الإذلال والإهانة، لينتهي به المطاف إمّا قاتلًا وإمّا مقتولًا.
أمّا من اختار ألّا ينجرّ إلى السلاح، فغالبًا ما يفرض عليه الواقع أن يكون "مواطنًا صالحًا"، أي صامتًا منزوع الصوت والكرامة أحيانًا، ينفّذ ما يُطلَب منه دون حولٍ له ولا قوّة. أن يرى الظلم ولا يتكلّم، أن يُهان ولا يرفع رأسه، أن يُتّهم ويُلاحَق لمجرّد اسمه أو مظهره أو لهجته أو نظرته أو مكسبه، أو لمجرّد أهواء من يحمل في وجهه السلاح.
الغصّة البديلة لهذَيْن الخيارَيْن، حين يضيق الصدر وتضيق سُبل الحياة، لا يبقى إلّا البحر أو الطائرة. والمفارقة أنّ الغالبيّة العظمى من الّذين يُهاجرون لا يبحثون عن الثراء، بل سعيًا نحو الأمان والتقدير والاحترام والحياة بطمأنينة ورضا. هم يبحثون عن مَنْفَس! المهاجر هنا يسعى نحو حقّه بأن يكون إنسانًا، لا مشروع تهديد دائم.
يبقى السؤال مطروحًا: هل انتهت الخيارات أمام المواطن العربي في هذه البلاد؟ هل كُتِب عليه أن يختار بين الرصاص والإهانة والمنفى؟ يقينًا هناك طريق رابع، طريقٌ لا يُمنَح، بل يُنتزَع. حين يبدأ العربي برفض المعادلة من أصلها، ويرفع صوته، لا للاستعطاف بل للمطالبة بحقّه علنًا، حين نفعّل القدرة الجماعيّة ونعمل كمجتمع وأقلّيّة قوميّة، لا كأفرادٍ وجماعات مفكَّكة، حين نصنع لأنفسنا ولو موطئ قدم في دوائر صناعة القرار السياسي. حينها وحينها فقط يُمكن أن يُكسَر هذا القيد الثلاثي. نحن لا نطالب بامتيازات. نريد فقط أن نعيش بكرامة، في أرضٍ لا تطردنا منها الرصاصة ولا الكلمات ولا السياسات. هذا الحقّ لا يُمنَح، بل يُفرَض فرضًا على من خطّط وسعى وأراد لنا أن نعيش متقوقعين بين خياراتٍ ثلاث.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com