نظّم مركز "إعلام" امس السبت للعام الثاني على التوالي مؤتمره السنوي في مناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يصادف في الثالث من أيّار/ مايو، تحت عنوان "الكلمة الحرّة وأصحاب القلم الحرّ في مرمى النار"، وذلك في فندق الليغاسي في مدينة الناصرة، بمشاركة عشرات الصحافيين والصحافيات والناشطين في مجال الدفاع عن حرية التعبير وحرية العمل الصحافي.
افتتحت المؤتمر ميسون زعبي بدعوة الحضور إلى وقفة حداد على أرواح زملاء المهنة الذين ارتقوا في قطاع غزّة خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل، مؤكدة أنّ هذا الغياب الجسدي لا ينفي الحضور المهني والرمزي الدائم لهؤلاء، وأنّ الكلمة الحرّة تبقى من أدوات الدفاع الأخيرة في وجه السعي المنهجي لعزل الصحافيين عن واقعهم وعن شعبهم.
وفي الكلمة الافتتاحية للمؤتمر، أشار الكاتب أنطوان شلحت، رئيس مجلس إدارة مركز "إعلام"، إلى التصعيد الممنهج في ملاحقة الصحافيين، وتضييق فضاء العمل الإعلامي، مشدّدًا على أنّ الكلمة الحرة ليست مجرّد اختيار، بل موقف يتجاوز الأبعاد المهنية إلى الأخلاقية. وذكّر بسياقات سابقة توضّح كيف تحوّلت أدوات الإعلام إلى أدوات تهيئة سياسية، لا سيّما حين تتواطأ البنية الإعلامية مع السلطة، من خلال الإقصاء، التحريف، وحجب المعرفة، لا بالضرورة عبر الكذب، بل عبر إنتاج جهل فعّال. واعتبر شلحت أنّ الصحافيين هم حرّاس الوعي، لا على نحو مجازي، بل بما هم حرّاس اللغة، والذاكرة، والمعنى.
وتوزّع برنامج المؤتمر على ثلاث جلسات ناقشت جوانب متقاطعة من واقع العمل الصحافي في السياق الفلسطيني.
في الجلسة الأولى، التي أدارها الصحافي وائل عوّاد، تحدّث كل من الصحافية كريستين ريناوي، الصحافية زهرة سعيد، والصحافي أحمد أبو صويص، عن التهديدات الميدانية المتصاعدة التي يواجهها الصحافيون، بين الملاحقة، والتقييد، ومحاولات الإخضاع، فضلًا عن أشكال الرقابة الذاتية الناتجة عن انسداد الأفق، والتي لا تقل خطرًا عن التدخّلات الرسمية. كما ناقش المتحدثون تحوّلات الخطاب الإعلامي في الداخل، وإشكاليات المصطلح في ظل احتدام المعركة على السردية، إضافة إلى الأثر المتراكم للقيود القانونية والسياسية على حرية التعبير في المجتمع العربي.
الجلسة الثانية، التي أدارتها الصحافية مريم فرح، خُصّصت لموقع الإعلام الأجنبي من الرواية الفلسطينية، لا سيّما في سياق العدوان الإسرائيلي على غزّة. وشارك فيها كل من الصحافية نضال رافع، الصحافي محمد قاسم، الصحافية لبنى مصاروة، الصحافية غصون بشارات، والصحافية دارين الجعبة.
وتناول النقاش الفجوة بين التغطية الغربية ومجريات الواقع الفلسطيني، والتوتر القائم بين المعايير المهنية والمعايير السياسية المفروضة ضمن مؤسسات إعلامية دولية. وأشار المتحدثون إلى ما وصفوه بتقييد اصطلاحي وأجندات تحريرية تسعى إلى إخضاع الرواية الفلسطينية لسياق مهيمن، غالبًا ما يستبعد الضحية ويمنح الأولوية للمنظور الأمني أو "الموضوعي" الزائف. مع ذلك شدّد المشاركون على أهمية العمل المهني الدقيق، وتجنّب تحويل الصحافة إلى أداة تحشيد، لافتين إلى تباينات داخل الإعلام الغربي، وضرورة عدم التعامل معه ككتلة واحدة.
الجلسة الثالثة، التي أدارها الصحافي ضياء حاج يحيى، تناولت الإطار القانوني لحماية الصحافيين في الداخل الفلسطيني، وقدّمت خلالها المحامية عبير بكر مداخلة شاملة عرضت فيها مستجدات المشهد القانوني، بما يشمل الاعتقالات، التحريض، والملاحقة الجنائية، واقترحت خطوطًا عملية يمكن للصحافيين تبنّيها، استنادًا إلى الحالات الأخيرة.
إلى جانب الجلسات، نظّم المركز معرض صور بعنوان "تحيّة للزملاء"، سلّط الضوء على ظروف عمل الصحافيين في قطاع غزّة، الذين يواصلون أداء مهامهم بالرغم من القصف، وانعدام الحماية، ونقص المواد الأساسية. وقد وثّق المعرض شهادات بصرية من قلب الميدان، توضح التحديات اليومية التي يواجهها هؤلاء، في مواجهة مباشرة مع الموت، وفي غياب أبسط مقومات السلامة.
واختُتم المؤتمر بعرض فنيّ خاص قدّمه الفنان نضال بدارنة، في محاولة لتفكيك التوتر السياسي اليومي من خلال أدوات المسرح والضحك، من دون إقصاء للأسئلة الثقيلة التي يفرضها الواقع.
معطيات مُقلقة
في ختام المؤتمر، أكّد الكاتب أنطوان شلحت أنّ مركز "إعلام" لن يكتفي بإحياء هذه المناسبة السنويّة، بل يسعى إلى مواصلة توثيق تجارب الأقلام الحرّة، والدفاع عن كل من يتم استهدافه، فضلًا عن إطلاق سلسلة من اللقاءات التي تهدف إلى تكريم أجيال من الصحافيين العرب في الداخل الفلسطيني، بغية إعادة الاعتبار إلى جهودهم التأسيسية المتميّزة، التي لم تُفرد لها مساحة كافية في السردية الوطنية.
ونوهت خلود مصالحة، المديرة العامة لـ “إعلام"، بأنه سيتم استخلاص عدد من الاستنتاجات والتوصيات من المؤتمر من أجل أخذها في الاعتبار لدى التحضير للمؤتمر المقبل. كما نوهت بأن المؤتمر الحالي كان نتاج عمل لجنة توجيه خاصة أقامها "إعلام" وضمت نخبة من الإعلاميين العرب، وينبغي توجيه جلّ الشكر لهم على ما بذلوه من جهد من أجل إنجاح المؤتمر وإثراء وقائعه ومضمونه.
وتزامن المؤتمر مع كشف معطيات جديدة صادرة عن مركز "إعلام" ساهمت في تثبيتها الصحافية نجمة حجازي، تفيد بأن الفترة منذ بداية عام 2024 وحتى بداية أيّار/ مايو 2025، شهدت تسجيل 44 اعتداءً وانتهاكًا ضدّ صحافيين ووسائل إعلام عربية في الداخل الفلسطيني.
كما صدرت عشية المؤتمر بيانات رسمية عن الرقابة العسكرية الإسرائيلية، كشفت عن تدخّلها في أكثر من 2000 مادة صحافية خلال عام 2024، بمعدّل يتجاوز 21 مادة يوميًا. وهو رقم يُعدّ الأعلى منذ عقود، ويزيد بثلاثة أضعاف عما سُجّل في فترات ما تُعرف بزمن "السلم الأمني"، ويفوق بمرتين التدخّلات التي وقعت خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة عام 2014.
وبيّنت الأرقام أنّ الرقابة منعت بشكل تام نشر 1635 مادة صحافية، وتدخّلت جزئيًا في 6265 مادة أخرى، في ظل قانون يفرض على وسائل الإعلام عرض المواد المرتبطة بـ"الأمن" على الرقابة العسكرية، من دون توضيح معايير هذا التصنيف، ومن دون السماح بالإشارة إلى خضوع المادة إلى الرقابة أصلًا، ما يجعل الرقابة جهازًا صامتًا لكنه شديد الفعالية في إنتاج الصمت وتكريس الانقطاع عن المعرفة.
وفي وسط هذا المشهد، عاد المؤتمر ليؤكّد أنّ الكلمة الحرّة ليست امتيازًا بل حاجة، وأن الدفاع عنها ليس وظيفة الصحافيين وحدهم، بل مسؤولية مجتمعية وسياسية في آن.