في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تشهد إسرائيل صداما علنيا بين وزارة الدفاع ووزارة المالية حول ميزانية 2026، وسط سباق محموم لإعادة بناء الجيش بعد حرب توصف داخليا بأنها حرب "السبع جبهات".
وفي قلب هذه المعركة تتشكّل معادلة إستراتيجية جديدة عن قدرة الدولة، التي تواجه استنزافا غير مسبوق، على تمويل إعادة بناء قوتها البرّية والجوية، في حين تتراجع مؤشرات النموّ وارتفاع نسبة الدين.
ويتجاوز السجال في هذه الحالة حدود التنافس البيروقراطي بين الوزارتين، ليتحول إلى اختبار مباشر لمستقبل الجاهزية العسكرية، ولتماسك الائتلاف الحاكم، وحتى للاستقرار السياسي الذي قد يُعاد قياسه من خلال سؤال بسيط: هل تستطيع الحكومة تمرير ميزانية 2026 دون انفجار داخلي؟
بعد عامين من الحرب على #غزة.. كيف تأثّر اقتصاد تل أبيب؟#حرب_غزة #إنفوغراف pic.twitter.com/jNzzkkGlAz
— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 10, 2025
تكشف الأرقام عن أزمة هيكلية في تمويل الأمن بعد حرب ممتدة على عدة جبهات؛ فالفجوة بين مطالب ميزانية الجيش وتقديرات وزارة المالية لعام 2026 تبلغ نحو 50 مليار شيكل (14 مليار دولار) إذ تطلب وزارة الجيش 144 مليار شيكل مقابل إطار رسمي وضعته وزارة المالية لا يتجاوز 100 مليار شيكل.
وفي هذا السياق، اتخذ المحاسب العام في وزارة المالية، ياهلي روتنبرغ، خطوة غير مسبوقة بتجميد جميع المدفوعات تقريبًا للمؤسسة العسكرية حتى نهاية 2025 ووقف معظم العقود الجديدة لعام 2026، بعد اكتشاف فجوة فورية قدرها 31 مليار شيكل بين الميزانية المُعتمَدة والنفقات المتوقَّعة حتى ديسمبر/كانون الأول.
ويزعم الجيش الإسرائيلي بحسب تقرير صحيفة "ماركر" الاقتصادية أن 12 مليار شيكل من هذه الفجوة هي أموال صادقت عليها شعبة الميزانيات في إطار اتفاق زيادة قدرها 42 مليار شيكل لتغطية العدوان على إيران وعملية "عربات جدعون 2" في غزة لكنها لم تُقرّ بعد في الكنيست، إضافة إلى 9 مليارات شيكل يُفترض أن تأتي من مساعدات أميركية متعثرة بسبب أزمة الميزانية الفدرالية في واشنطن.
ونقلت "ماركر" عن روتنبرغ أن الجيش عمليًا حمّل موازنة 2026 بالتزامات إنفاق مسبقة لا يمكن التراجع عنها تتجاوز السقف المعتمد، من بينها زيادة في حجم صفقات التسليح بنحو 40% مقارنة بما قبل حرب غزة، في حين لا يزال الإطار الرسمي 93 مليارًا فقط.
وتتغذى هذه الفجوات على قفزة إنفاق عسكري غير مسبوقة منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ إذ بلغ الإنفاق على العمليات في غزة ولبنان وحدهما عام 2024 نحو 112 مليار شيكل، وارتفع إجمالي الإنفاق العسكري إلى 168.5مليار شيكل (8.4% من الناتج القومي) مقارنة بـ 98.1 مليار شيكل فقط في 2023 (5.2% من الناتج).
ودفع ذلك العجز المالي إلى نحو 6.8% وفرض 3 ميزانيات تكميلية رفعت الإنفاق العام من 513.7 إلى 620.6 مليار شيكل، بحسب تقرير لموقع والا.
وتبدو هذه الأرقام -بحسب الموقع- أعلى بكثير من المسار الذي رسمته "لجنة ناغل" التي أوصت في تقريرها المقدم للحكومة الإسرائيلية بزيادة "صافية" لميزانية الأمن قدرها 133 مليار شيكل خلال 10 سنوات، وذلك عبر زيادات سنوية تتراوح بين 9 و15 مليار شيكل.
ويضاف لذلك، زيادات سابقة في الإنفاق الأمني أُقرّت بعد الحرب؛ مما يرفع حجم الزيادة الإجمالية إلى نحو 275 مليار شيكل خلال عقد، في حين ذهبت الحكومة فعليًا إلى قفزة فورية قدرها 42 مليار شيكل، مما جعل التوصيات تبدو متواضعة ومتأخرة عن واقع اقتصاد حرب مفتوحة.
واعتبر المختص في الشأن الإسرائيلي محمد القيق في حديثه لـ"الجزيرة نت" أن تفاقم الأزمة بين وزارة المالية والجيش نابع من إدارة فاشلة لوزارة الحرب في التعامل مع غزة، إذ طرحت مشاريع هجومية ودفاعية خلال الحرب لتغطية الإخفاق الميداني وليس ضمن رؤية إستراتيجية.
ويرى القيق أن الصراع الراهن يعكس شبكة فساد متجذّرة في الجيش وصفقات التسليح وأولويات بعض الجنرالات، في حين تحاول وزارة المالية إبعاد نفسها عن هذه الملفات الحساسة.
وبسبب صعوبة كشف فساد الجيش أمام مجتمع يعيش هزيمة نفسية، يُدار النقاش عبر بوابة الإنفاق العسكري والحفاظ على ثقة الإسرائيليين بالمؤسسة العسكرية.
نقلت صحيفة معاريف عن المدير العام لوزارة الدفاع، اللواء (احتياط) أمير برعام، أن الجيش الإسرائيلي يدخل مرحلة استنزاف خطِرة، وأبرز مؤشراتها:
ويتهم برعام وزارة المالية بإعاقة وتأخير توقيع عشرات الصفقات المهمة التي تشمل ذخائر دقيقة للقوات الجوية والوحدات البرية، وقطع غيار لدبابات "ميركافا"، ومسيّرات تكتيكية لألوية المناورة مثل غولاني وجفعاتي ووحدات الكوماندوز.
كما تؤجل الوزارة عقود تحصين مستوطنات الشمال والجنوب، وصولاً إلى تعطيل مشروع "الجدار الشرقي" على الحدود مع الأردن، الذي تراه وزارة الدفاع خط دفاع حيوي ضد التهريب والاختراقات في حال توسعت المواجهة مع إيران أو حزب الله .
من جهته، اعتبر يوفال أزولاي في صحيفة كلاكيست الاقتصادية أن أخطر هذه القرارات تجميد ما يسمى "العقود غير المموّلة"، الذي يعني وقف الالتزامات الجديدة التي لا تستند إلى مصادر ميزانية مُصادَق عليها، وهي الأداة التقليدية التي تستخدمها وزارة الدفاع لتجاوز الحاجة العملانية الفورية.
وتستند وزارة الدفاع إلى تقدير استخباراتي يعتبر عام 2026 سنة الاختبار الحقيقي للجبهة الشمالية -بحسب تقرير لصحيفة معاريف- واحتمال مواجهة واسعة مع حزب الله، مما يجعل أي نقص في الذخيرة أو تأخير في ترميم الاحتياط تهديداً مباشراً لقدرة سلاح الجو على تنفيذ ضربات واسعة، كما يعرّي الجبهة الداخلية أمام هجمات حزب الله.
وفي السياق ذاته، وصف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير عام 2026 سنة جاهزية لحرب متعددة الجبهات، لكن القلق يتفاقم من دخولها بجيش أقل استعداداً بسبب الخلاف مع وزارة المالية.
ونقل المحلل العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت يوسي يهوشع عن مصادر وزارة الدفاع أن وزارة المالية تُكرر أخطاء ما قبل 7 أكتوبر نفسها، حين خفضت ميزانية الأمن بشكل كبير في مواجهة التهديدات التي تطورت، واضطرت إسرائيل لتلقي مساعدات أميركية غير مسبوقة.
وقال "نحن بحاجة إلى ملء مستودعات الحرب، وتجديد المعدات، وشراء منصات وأسلحة وصواريخ اعتراضية جديدة للجولة الثانية في إيران ولبنان. إن تحركات وزارة المالية غير مسؤولة وتضر بأمن إسرائيل، وهي تعلم أننا لا نستطيع أيضًا نشر احتياجاتنا الكثيرة".
وحذر المختص القيق من أن زيادة الضخ الإعلامي على ميزانية الجيش حاليا قد تكون مخادعة وضمن الحرب النفسية لإيهام الهدف القادم أن إسرائيل غير قادرة على المواجهة، وبالتالي سيقومون بمواجهة فجأة وهذا ما رأيناه أكثر من مرة قبيل حرب لبنان والعدوان على إيران، ولا يستبعد أن يكون هذا الجزء منه حرب إعلامية لتنفيذ ضربات ميدانية إما ضد إيران أو لبنان أو غيرها.
وتقود وزارة المالية، برئاسة بتسلئيل سموتريتش ، خطابًا معاكسا تماما لرواية الجيش، تحت عنوان غير معلن هو "إعادة الضبط المالي"، فحسب معطياتها شهد الإنفاق الأمني منذ حرب 2023 تضخما غير مسبوق، وتجاوزت وزارة الدفاع سقف ميزانية 2025 دون مبررات كافية، عبر تعاقدات واسعة تمّت قبل الحصول على مصادقات كاملة، بحسب تقرير صحيفة "ماركر" الاقتصادية.
وتحذر وزارة المالية من أن مجمل هذا النقاش مرتبط بسقف العجز وأهداف النمو، ومن وجهة نظرها فإن أي زيادة دائمة في ميزانية الأمن ستعني ضرائب أعلى أو تقليصات أعمق في الخدمات المدنية.
في هذا السياق تبرّر المالية فتح تحقيقات حول آليات الدفع لبعض المورّدين، من قبل المؤسسة العسكرية، وتدفع لخطة إعادة هيكلة منظومة الاحتياط عبر خفض تكلفة الخدمة الطويلة وتقليص أيام الاحتياط وإعادة تنظيم التعويضات، معتبرة أن العبء المالي أصبح غير مستدام، إضافة إلى الموافقة المسبقة على أي عقود تسليح، بينما تصرّ المؤسسة العسكرية على المصادقة بأثر رجعي، مما يهدّد مستقبل مشترياتها وعلاقتها بالصناعات الأمنية في السنوات المقبلة ويعمّق أزمة الثقة المتبادلة.
غير أن المختص القيق يرى أن وراء الخلافات بين المالية والدفاع يقف تحديد أولويات سموتريتش وحكومة بنيامين نتنياهو الحقيقية، التي تكمن في تعزيز دولة المستوطنين في الضفة الغربية، وهذا يحتاج إلى تكلفة كبيرة، خاصة أن مشاريع الاستيطان تحديدا لا تلقى دعمًا كبيرًا من المجتمع الدولي ، على عكس وزارة الحرب التي تلقى دعما كبيرا بحجة محاربة الإرهاب وغيرها.
ويحاول سموتريتش الضغط باتجاه تعزيز ميزانية المستوطنين على حساب وزارة الدفاع "التي أصلًا أفرطت في الإنفاق"، مما يكشف الابتزاز الذي يمارسه وزير المالية ضد الجيش "إذا أردتم أن نصرف لكم أموالا فاصرفوا النظر عن تجنيد الحريديم "، وهي نقطة خطيرة في آلية التعامل وحسابات الأحزاب الداخلية في إسرائيل.
تتجاوز معركة ميزانية الأمن الحسابات المالية البحتة لتتحول تدريجيًا إلى اختبار تماسك لائتلاف حكومة نتنياهو، ويقف في أحد طرفي المعادلة الليكود ووزارة الدفاع، ويحاول كلا من وزير الدفاع يسرائيل كاتس والمدير العام لوزارة الدفاع برعام تكريس سردية مفادها أن زيادة ميزانية 2026 ليست ترفا ماليا بل استجابة إلزامية لمعركة وجود بعد حرب طويلة على عدة جبهات.
وباستخدام هذه اللغة التي ترفع معها الأخطار الأمنية لمستويات التهديد الوجودي، ويضعان أي تقليص في ميزانية الجيش في خانة "تعريض الأمن القومي للخطر"، يضطر نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ، إلى تبنّي موقف أقرب لمطالب الجيش حتى لا يُتّهم بالتقصير أمام المؤسسة العسكرية والرأي العام في حال انفجار أي مواجهة واسعة.
في الجهة المقابلة، تتحرك الصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش بمنطق مغاير؛ ففي ظل تراجع شعبيتها فهي ترى في الصدام فرصة سياسية لإثبات "مسؤوليتها الاقتصادية" أمام جمهورها من الناخبين المتدينين والقوميين عبر خطاب "وقف الهدر" وفرض الانضباط على ما تصفه بـ"ثقافة شيك مفتوح" لصالح الجيش.
في ظل هذا المناخ، تتحول أرقام العجز والفجوة بين طلبات وزارة الدفاع وسقف وزارة المالية إلى مادة للدعاية الانتخابية وتعبئة داخلية في معسكر اليمين القومي المتطرف.
إلا أن هذه الخلافات قد تكون بداية لأزمة ائتلافية حقيقية تبرز على خلفية بند قانوني واضح ينص على "عدم إقرار الميزانية حتى نهاية مارس/آذار 2026، مما يعني سقوط الحكومة تلقائيًا والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وهو سيناريو يستخدمه مقربون من نتنياهو كورقة ضغط على الطرفين.
وأكد المختص في الشأن الإسرائيلي عليان الهندي في حديثه للجزيرة نت أن ميزانية الأمن باتت أداة ابتزاز متبادل داخل الائتلاف، فسموتريتش يلوّح بقدرته على تعطيل إقرار الميزانية وتعطيل قوانين ضريبية واجتماعية مركزية إذا لم تُخفَّض طلبات الجيش، بينما يدرك نتنياهو أن أي انحياز واضح لوزارة المالية على حساب المنظومة العسكرية قد يفجّر أزمة ثقة مع الجيش ووزير الدفاع، ويُضعف موقعه أمام قاعدته الانتخابية.
وفي ظل هذا المشهد المركب، يرجح أن ميزانية 2026 ستسقط في اختبار التصويت عليها، ويضاف لذلك التجاذبات داخل الائتلاف حول قانون تجنيد الحريديم الذين يعطلون تمرير أي قوانين حتى يمرر قانون إعفائهم من التجنيد.
ويضاف لهذا الوضع المربك، لغم آخر أخطر وهو الميزانيات الائتلافية (تخصّص ضمن الموازنة العامة لصالح الأحزاب التي تشكل الحكومة الائتلافية ) وسيجبر نتنياهو على الموافقة عليها أو سيكون المقابل انتخابات مبكرة في ربيع 2026.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة