تسعى الولايات المتحدة جاهدة إلى الحفاظ على موقعها الريادي في مجال الذكاء الاصطناعي، وإلى إبقاء الصين خلفها – لا بل إلى توسيع الهوة بين البلدين قدر الإمكان.
لكن استراتيجيتها لتحقيق ذلك شهدت منعطفاً حاداً هذا العام – ظهر إلى العلن حين زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دول الخليج في أيار/ مايو، وربما بدأت مفاعيله قبل أسابيع قليلة.
فقد تم الإعلان خلال تلك الزيارة عن عدد من الصفقات الضخمة بين شركات أمريكية وأخرى إماراتية وسعودية، تقوم على تمويل سعودي وإماراتي لمراكز بيانات ضخمة في الخليج والولايات المتحدة، والسماح بتصدير الرقائق المتطورة إلى البلدين الخليجيين.
لعل الصفقة الأبرز كانت مع الإمارات، إذ تقضي ببناء مشروع للذكاء الاصطناعي تفوق مساحته 25 كلم مربع في أبو ظبي - مع قدرة توليد 5 غيغاوات من الطاقة الكهربائية المخصصة لمراكز البيانات.
وقد شددت الإدارة الأمريكية على أن شركات أمريكية هي التي ستدير مراكز البيانات وتقدم الخدمات السحابية (cloud services) في المنطقة.
وكالة بلومبرغ قالت في التاسع من شهر أكتوبر/تشرين الأول إن واشنطن وافقت على تصدير دفعة من رقائق شركة انفيديا الرائدة الى الإمارات، في خطوة أولية لبدء تطبيق الصفقة الكبرى، إذ أصدرت وزارة التجارة تراخيص التصدير، وفق مصدر لم تسمه الوكالة.
تصدير الرقائق إلى الخليج هو الانقلاب الأساسي في الإستراتيجية الأمريكية. ففي عهد الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن فُرضت قيود صارمة على تصديرها إلى معظم دول العالم بما فيها دول الخليج، وذلك خوفاً من انتشارها ووصولها بشكل أو بآخر إلى الصين.
يحلو لدونالد ترامب أن يفاخر بالصفقات التي يعقدها، وبالأموال والاستثمارات التي يأتي بها إلى الولايات المتحدة، كما يحلو له أن ينقلب على سياسات سلفيه باراك أوباما وجو بايدن. لذلك يبدو سلوكه في الخليج متناسقاً تماماً مع أسلوبه بشكل عام.
لكن قد تكون عوامل أخرى دفعت الولايات المتحدة إلى تغيير استراتيجيتها في مجال الذكاء الاصطناعي: من سياسة فرض قيود صارمة على تصدير الشرائح إلى سياسة الإسراع في بناء بنى تحتية للذكاء الاصطناعي في الخليج.
من بين هذه العوامل مسألة الكهرباء.
في مارس/آذار من العام الجاري، قالت الوكالة الدولية للطاقة إن الطلب على الكهرباء عالمياً قد ازداد بنسبة 4.3٪ عام 2024، مقارنة بنمو نسبته 2.5٪ عام 2.23.
الوكالة قامت بقياس متوسط وتيرة نمو الطلب على الكهرباء بين عامي 2010 و2023، فوجدت أنه يوازي ضعف متوسط النمو على كافة أشكال الطاقة في نفس الفترة، بمعنى أن الطلب على الكهرباء تحديداً - وليس الطاقة عموماً - يزداد بشكل كبير.
الأسباب متعددة - من بينها مثلا الزيادة في استخدام السيارات الكهربائية - لكن للذكاء الاصطناعي دور كبير في هذا النمو، والسر في النماذج اللغوية الكبيرة التي تتحول سريعاً الى جزء من يومياتنا، وفي مراكز البيانات الضخمة التي لا يمكن لتلك النماذج أن تعمل دونها.
ينكب خبراء في أنحاء العالم على البحث في سؤال غالباً ما يأخذ الشكل التالي: كم يحتاج النموذج اللغوي من الطاقة الكهربائية للإجابة على سؤالك؟
ليس من جواب قاطع، بل دراسات تحاول مقاربة الموضوع والوصول الى أرقام تقريبية، خاصة في ظل تكتم شركات كبرى عن أرقامها واسرارها، وتعدد العوامل المؤثرة.
قدرت صحيفة الغارديان – استناداً الى أبحاث مختصين في جامعة رود ايلاند – أن استهلاك تشات جي بي تي 5 قد يصل الى ما يعادل الطلب اليومي على الكهرباء من 1.5 مليون منزل أميركي.
ويُعتقد أنه كلما ازداد حجم النموذج ازداد استهلاكه للكهرباء، كما يعتقد بأن النماذج تنمو باستمرار، مع أن إجراء قياسات دقيقة ورسمية ليس متاحاً في معظم الأحيان.
لا يمكن للنماذج اللغوية الكبيرة ان تُشغل محلياً على أجهزتنا – الكومبيوتر أو الهاتف - فهي تقوم بعملياتها الحسابية في مراكز البيانات. هناك، يتم تحميلها على خوادم تحتوي على نوع من الرقائق الدقيقة المتقدمة تقوم بما يلزم لتعود اليك بإجابات مفيدة.
يُعتقد أن النماذج هذه حين تزداد حجماً وتعقيداً - وقدرةً على اكتشاف الأنماط - تزداد حاجتها إلى تلك الرقائق وكذلك استهلاكها للطاقة الكهربائية.
توقعت الوكالة الدولية للطاقة في تقرير لها نشر في أبريل/ نيسان من العام الجاري أن يزداد الطلب على الكهرباء من مراكز البيانات حول العالم بأكثر من الضعف بحلول عام 2030، ليصل الى حوالي 945 تيراواط ساعة، وهو ما يزيد – ولو قليلاً – عن إجمالي استهلاك الكهرباء في اليابان.
الذكاء الاصطناعي – وفقاً للتقرير – سيكون المحرك الأبرز لهذه الزيادة، إذ يتوقع أن يزداد الطلب على الكهرباء من مراكز البيانات المحسنة بالذكاء الاصطناعي بأكثر من أربعة أضعاف بحلول عام 2030.
خلاصة القول إن مراكز البيانات التي تشغل النماذج اللغوية الكبيرة – أي تلك التي تخدم شركات الذكاء الاصطناعي – تستهلك الطاقة بنهم مذهل ومتنام، مما أثار تساؤلات عن قدرة شبكات الكهرباء على التعامل معها.
وقد بدأت آثار الضغط هذا بالظهور في الولايات المتحدة.
تستهلك مراكز البيانات – ابتداءً من عام 2023 - حوالي 176 تيرراواط ساعة، أي ما يعادل حوالي 4.4٪ من كامل استهلاك الولايات المتحدة للطاقة، وما يزيد عن ضعف المعدل المسجل لعام 2014، وهو 70 تيرواط ساعة، وفقاً لوزارة الطاقة الأمريكية.
هي نسبة هائلة، لكن الآتي قد يكون أعظم، إذ يتوقع باحثون في معهد أبحاث الطاقة الكهربائية أن يصل استهلاك تلك المراكز إلى 9٪ من مجمل استهلاك الولايات المتحدة الأمريكية للكهرباء بحلول عام 2030.
يظهر تحقيق لوكالة بلومبرغ أثر انتشار الذكاء الاصطناعي على معيشة الناس: فقد ارتفعت كلفة الكهرباء لسكان بعض المناطق الأمريكية التي تكثر فيها مراكز البيانات بنسبة وصلت الى 267٪ للشهر الواحد مقارنة بما كانت عليه قبل خمس سنوات.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تشرح الأمر بشكل بسيط مدهش في آن: مع حلول عام 2030، يتوقع أن تفوق كمية الطاقة الكهربائية التي تستهلكها الولايات المتحدة الأمريكية لمعالجة البيانات، كامل استهلاكها الكهربائي لتصنيع مواد مثل الألومنيوم والفولاذ والإسمنت والكيماويات وغيرها من المواد كثيفة الاستهلاك للطاقة. ويُنسب جزء أساسي من هذه الزيادة إلى الذكاء الاصطناعي.
المشكلة بالنسبة إلى واشنطن تكمن في العواقب التي تواجهها لتحديث البنى التحتية بما يكفي من السرعة للمضي قدماً دون تأخير في تطوير الذكاء الاصطناعي.
تكتب فريال سعيد، الدبلوماسية الأمريكية سابقاً والخبيرة في السياسة الخارجية والأمن القومي، أن الولايات المتحدة لا يمكنها بناء مراكز البيانات بالسرعة الكافية على أراضيها بسبب قيود متعلقة بالموارد والقوانين الناظمة، في حين أن الصين بإمكانها التقدم سريعاً في هذا المجال من خلال مشاريع بنى تحتية تدعمها الدولة. وقد حفز هذا الأمر إدارة ترامب، وفقاً لسعيد، على استدارتها الخليجية.
تملك دول الخليج، وتحديداً الإمارات والسعودية، ميزات كفيلة بإسالة اللعاب الأمريكي.
تتراوح كلفة "الأراضي الصناعية" في السعودية بين 10 و50 دولاراً للمتر المربع، مقابل حوالي 150 إلى 600 دولار في أماكن مثل شمال فيرجينيا حيث تتركز مراكز البيانات في الولايات المتحدة.
وتتراوح تعرفة الكهرباء في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ما بين 0.05 و0.06 دولار أمريكي لكل كيلوواط ساعة، وهي كلفة زهيدة مقارنة بمتوسط كلفتها في الولايات المتحدة الذي يتراوح بين 0.09 و0.15 دولار أمريكي لكل كيلوواط ساعة.
هذه الأرقام من برايس واتيرهاوس كوبر تظهر فرقاً شاسعاً في كلفة بناء وتشغيل مراكز البيانات الضخمة بين الخليج والولايات المتحدة.
يضاف إلى ذلك توافر رأس المال لدى الصناديق السيادية وسهولة تطبيق المشاريع حين تتوافر الإرادة السياسية لدى الحكام.
البعض في الولايات المتحدة يخشى أن تتحول دول الخليج تدريجياً إلى منافسة للولايات المتحدة. ويستند في ذلك إلى أنها تحافظ على علاقات مع الصين وروسيا وإيران، وأن تلك الدول قد تستفيد من التكنولوجيا الأمريكية بشكل غير مباشر بعد نقلها إلى الخليج.
هذه الحجة قد تكون من بين الدوافع الكامنة خلف سياسة إدارة بايدن التي فرضت قيوداً صارمة على تصدير الرقائق الدقيقة المتقدمة، بما في ذلك إلى دول الخليج.
استندت استراتيجية بايدن إلى رؤية مفادها أن الرقائق هذه هي أهم ما تملك واشنطن في سباق السيطرة على مستقبل الذكاء الاصطناعي.
لكن هذه النظرة تتغير. فقد بات عدد من كبار المسؤولين في إدارة ترامب يرى أن المسألة المحورية لم تعد الرقائق المتقدمة، بل الطاقة الكهربائية. ويكتب محمد سليمان، الباحث في معهد الشرق الأوسط، في مجلة فورين بوليسي إن هذه القناعة – مصحوبة بشعور بأن الفجوة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين ليست بالحجم الذي يتخيله مؤيدو سياسة تقييد تصدير الرقائق – تدفع بإدارة ترامب الى الاستدارة إلى الخليج.
ويقلل بعض المراقبين من إمكانية تحول دول الخليج إلى منافس للولايات المتحدة.
تكتب فريال سعيد إن دول الخليج لا يمكنها بناء نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة وبنى تحتية مرتبطة بها من دون دعم أمريكي، وأن إحداث أي قفزة حالياً في الذكاء الاصطناعي لا يزال أمراً يحتاج إلى شراكة مع الولايات المتحدة. وبالتالي، فإن الاتفاقات مع السعودية والإمارات لا تشكل تسليماً للقوة إليهما، إنما امتداداً مدروساً للقوة الأمريكية، على حد تعبيرها.
ويقول الموقع المتخصص بالذكاء الاصطناعي "سيمي اناليسيس" إنه اذا ما طبقت واشنطن شروط الاتفاقات المتعلقة بالجوانب الأمنية ستؤدي الصفقات إلى تعميق اعتماد السعودية والإمارات على المعدات والبرمجيات الأمريكية بما "يجذب الدولتين أكثر فأكثر الى المدار الأمريكي".
تبقى حجة أخرى ضد سياسة ترامب، وهي حجة ذات طابع أمني عبّر عنها كريستوفر تشيفيس وسام ونتر-ليفي في مقال لهما في صحيفة واشنطن بوست. وفقاً للكاتبين، فإن مشاريع ترامب من شأنها أن تضع بنى تحتية استراتيجية أساسية في مكان معرض للهجمات، "في وقت يزداد فيه خطر المسيرات الرخيصة".
يذكّر الكاتبان بالضربة التي تعرض لها مجمعا أبقيق وخريس النفطيين في السعودية عام 2019 ويسألان عن كيفية تأمين مراكز البيانات في الخليج.
يخلص الكاتبان إلى أن إنشاء مثل هذه المراكز المرتبطة بالمنظومة الأمريكية للذكاء الاصطناعي سيؤسس إلى مصلحة قومية جديدة للولايات المتحدة – وهي ضرورة الدفاع عن تلك البنى التحتية وذلك في وقت تحاول الولايات المتحدة تقليل التزاماتها المباشرة في المنطقة.
لكن حتى الآن بقيت حصة هذه النقطة من النقاش الدائر قليلة نسبة إلى الجدال المشتعل حول الرقائق المتقدمة والكهرباء.
 المصدر:
        
             بي بي سي
    
    
        المصدر:
        
             بي بي سي
        
    
 مصدر الصورة
 
  مصدر الصورة 
  مصدر الصورة
 
  مصدر الصورة