في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يثير الحديث عن مستقبل "مجلس السلام" الدولي لإدارة قطاع غزة جدلا واسعا بين خبراء السياسة والقانون الدوليين، وسط تساؤلات عن قدرة المجتمع الدولي على إيجاد صيغة انتقالية تتجاوز إخفاقات التجارب السابقة، وتراعي المسارات السياسية والإنسانية العاجلة في ظل تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة، وتحديات وقف إطلاق النار الذي أُبرم هذا الشهر بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل.
وتتفاوت آراء الخبراء -في تصريحاتهم للجزيرة نت- بشأن فرص نجاح إدارة دولية في القطاع، لا سيما مع تشديدهم على أهمية الشرعية المحلية، وضمان مشاركة الفصائل الفلسطينية، وضرورة وجود ضامن إقليمي يمنع انحياز السلطة الدولية أو تمددها خارج مهمتها الأصلية.
وتظهر تجارب الحكم الدولي السابقة أن المجتمع الدولي غالبا ما يضطر لاعتماد هذا النموذج عندما تتعطل مؤسسات الدولة ويشتد التنافس على النفوذ، غير أن التاريخ يكشف محدودية هذا الحل، مما يفرض شروطا مشددة لأي انتقال فعلي من الإدارة الدولية إلى حكم وطني شرعي ومستدام، حسب ما قاله المحللون.
ولم تكن خطة الإدارة الدولية لغزة بمنأى عن هذا الجدل، إذ يتباين تقييم الخبراء بين اعتبارها ضرورة حتمية لإعادة الإعمار وتجاوز الانهيار، وبين مخاوف من فرض الوصاية على الفلسطينيين وتكريس الحلول المؤقتة، خاصة وسط الجدل الذي أثاره اختيار شخصيات يحوم حولها جدل كبير لرئاسة "مجلس السلام" الدولي، وتداخل المصالح الاقتصادية مع الأزمات الإنسانية في القطاع.
وخطة "مجلس السلام" تمثل اقتراحا من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في محاولة لوقف العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، والذي تفاقم بعد الحرب الأخيرة التي استغرقت عامين كاملين وخلفت عشرات آلاف الضحايا المدنيين، وهي جزء من اتفاق وقف إطلاق النار متعدد المراحل، بما فيه من آليات تضمن إعادة الإعمار واستئناف الحياة السياسية في القطاع.
تتباين الرؤى حول مشروعية ودوافع إنشاء الإدارات الدولية، لكنها تلتقي عند حقيقة أن مثل هذه المشاريع تظهر غالبا في حالات الفراغ والانهيار المحلي أو التنافس الدولي الحاد، مع تباين في تقدير مدى أخلاقيتها أو فاعليتها على المدى البعيد. ويظل الرهان دائما معلقا على مدى احترام هذه الإدارات لحقوق السكان، وقدرتها على نقل السلطة لاحقا إلى الجسم الوطني المحلي.
ولذلك يذهب أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة العربية الأميركية رائد أبو بدوية إلى أن المجتمع الدولي يلجأ غالبا إلى إنشاء إدارات دولية في حالات انهيار الأمن أو تعطل مؤسسات الدولة، حيث تصبح الحاجة ملحة لسد الفراغ السياسي والأمني، وضمان حقوق الأقليات وحماية المدنيين، وتهيئة المناخ الضروري لبناء مؤسسات حكم جديدة.
ويضيف أبو بدوية -في تصريحاته للجزيرة نت- أن هذا الخيار عادة ما يكون ملاذا مؤقتا لتثبيت الأمن وتقديم الخدمات الأساسية، إلى أن تتهيأ الظروف المناسبة لانتقال السلطة إلى جهة محلية شرعية.
وهذا الرأي يؤكده الخبير في القانون الدولي أنيس القاسم، إذ إن إنشاء سلطة دولية مؤقتة غالبا ما يكون مخرجا تفضله القوى الكبرى لتفادي اندلاع نزاعات أو حروب بين أطراف دولية متنافسة على منطقة إستراتيجية. ويوضح أن التجارب السابقة، مثل شنغهاي أو البوسنة أو دانزيغ، جاءت بدوافع التنافس بين القوى الكبرى، وكان الهدف احتواء الصدام وليس تحقيق رغبات أو طموح سكان المنطقة الأصليين.
أما زميلة ما بعد الدكتوراه في جامعة برينستون هيذر بيناتزر فترى أن الدافع الأساسي خلف اللجوء إلى هذا النموذج دائما ما يكون الحاجة إلى تسوية جيوسياسية مؤقتة أكثر منه رغبة في بناء شرعية سياسية مستدامة، مشيرة إلى أن المجتمع الدولي يلاحق الاستقرار الفوري حتى لو جاء ذلك على حساب الحوكمة المحلية.
تجمع آراء المحللين على أن نجاح الإدارات الدولية في التجارب السابقة ظل ظرفيا ومحدودا، ومرتبطا بحجم التفويض الدولي وفعالية الدعم الإقليمي وقدرة الفاعلين المحليين على المشاركة، كما تظل الشرعية المحلية وحكم الشعب لنفسه عامل الحسم في موقع النجاح والفشل، أما التدخلات الدولية -رغم تقديمها الخدمات أو الاستقرار المؤقت- فتبقى عاجزة عن ضمان انتقال فعلي وحقيقي للحكم المحلي الدائم ما لم تتأسس منذ البداية على مشاركة وموافقة السكان وممثليهم.
واستعرض أبو بدوية تجارب الإدارات الدولية الحديثة في تصريحاته للجزيرة نت، مشيرا إلى أن نتائجها جاءت مختلطة؛ فتجربة تيمور الشرقية حققت نجاحا نسبيا بفضل وضوح التفويض الدولي والدعم الإقليمي، مما سمح ببناء مؤسسات حقيقية قادت لاحقا إلى الاستقلال.
أما تجربة كوسوفو، فقد أمنت قدرا من الاستقرار والخدمات، لكنها لم تنه الانقسامات السياسية ولم تؤسس لشرعية حكم مستدام، في حين أن نموذج كمبوديا كشف عن عجز الإدارة الدولية عن بناء دولة ديمقراطية أو شرعية شعبية طويلة الأمد، حسب قول أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة العربية الأميركية.
ويعزز القاسم هذا التقييم، مضيفا أن حالات دانزيغ وشنغهاي والبوسنة أوضحت أن الإدارات الدولية حققت مصالح استثنائية في ظروف نزاع معقد، لكنها لم تنجح في خلق بنية وطنية شرعية وصلبة، وظل مآلها في النهاية إلى التلاشي مع عودة الصدام أو الفراغ.
لكن بيناتزر -في مقالها المنشور على موقع مجلة كومباكت بعنوان "السوابق التاريخية لخطة ترامب بشأن غزة"- تحذر من أن معظم الإدارات الدولية تعاني من عجز مزمن في الشرعية، وتوسعٍ غير محسوب في المهام، وغالبا ما تتركز السلطة في أيدي البيروقراطيين الأجانب مع تهميش السكان المحليين.
ويذهب مدير مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات محسن صالح إلى التشديد على أن كل التجاوزات السابقة من هذا النوع فشلت حين اصطدمت بإرادة الشعوب، مشيرا إلى أن الشعب الفلسطيني -خاصة- لن يقبل وصاية خارجية أيا كان شكلها أو مبررها.
وفيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة تحت مجلس السلام الذي تقترحه خطة ترامب، فإن أصوات المحللين تجمع على أن ذلك يظل مرهونا بمدى احترام الإرادة الفلسطينية، ويقر الجميع بأن النموذج الدولي لا يمكن أن ينجح إذا استُبعدت القوى المحلية أو تم تكرار منطق الوصاية، كما أن أي محاولة لتجاوز حقوق الفلسطينيين لصالح ترتيبات دولية لن تكون سوى مرحلة مؤقتة لن تصمد أمام اختبار الواقع أو إرادة الشعب.
ولذلك يرفض مدير مركز الزيتونة خطة "مجلس السلام"، ويصفها بأنها "فكرة تسير عكس التاريخ وحقوق الشعب الفلسطيني"، ويرى أنها محاولة لفرض الوصاية الدولية ومنح الاحتلال الإسرائيلي مكافأة غير مستحقة.
وفي تصريحاته للجزيرة نت، يؤكد صالح أن جوهر المشكلة في قطاع غزة يكمن في استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وليس في غياب إدارة فلسطينية فاعلة. ويقول "الشعب الفلسطيني مليء بالطاقات والكفاءات وقادر على إدارة نفسه بمجرد زوال الاحتلال، ولا يحتاج وصاية أحد".
وقريبا جدا من هذا الرأي يأتي تقرير بيناتزر، إذ جاء فيه أن خطة ترامب لإقامة إدارة دولية في غزة تكرس إشكاليات الماضي نفسها، فهي تفتقد إلى مشاركة فلسطينية حقيقية، وتأتي من منطلق صفقة سياسية لا تهتم بجوهر الشرعية أو المؤسسات المحلية.
وتلفت الكاتبة إلى أن توجهات ترامب الشخصية وميله للسياسات الإمبراطورية تنذر بأن "مجلس السلام" سيكون أقرب لنماذج الإدارة الدولية التقليدية التي باءت بالفشل، مؤكدة ضرورة وجود خطة واضحة لإنهاء الأزمة، مع هيكل إشراف محايد، وآليات لمشاركة سياسية محلية فاعلة، والتزام الضامنين بالتخلي عن السيطرة تدريجيا.
ويذهب خبير القانون الدولي أنيس القاسم إلى زاوية مختلفة فيما يتعلق "بمجلس السلام" المقترح في غزة، فهو يقول إنه يحمل بذور فشله مسبقا بسبب تركيبة قيادته، منتقدا اختيار شخصية توني بلير لقيادة الإدارة الدولية في غزة، مرجعا ذلك إلى سجله السلبي في العالم العربي وفشله في ملفات عدة كما حدث في العراق.
ويضيف القاسم أن بعض الشخصيات المؤثرة في "مجلس السلام" منشغلة بمصالحها الاستثمارية الخاصة التي هي بعيدة عن هموم أهل غزة وقضاياهم الإنسانية. مشددا على أن أي إدارة تتجاهل هذه الوقائع ستعجز عن تلبية تطلعات الفلسطينيين.
ويشترط أبو بدوية بأن نجاح أي إدارة دولية في غزة يبقى مشروطا بتفويض واضح، ودعم إقليمي فاعل وضامن، وإشراك الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) في الإدارة، مؤكدا أن تجاهل الواقع المحلي سيؤدي إلى مزيد من التعقيدات والمقاومة الشعبية.
وتخلص آراء الخبراء إلى أن "مجلس السلام" الدولي -في حال إقراره- سيكون إجراء مؤقتا فرضته نتائج عدوان إسرائيلي مدمر استمر عامين وخلف عشرات آلاف الضحايا الفلسطينيين، فضلا عن آلاف المفقودين تحت ركام المنازل نتيجة قصف الجيش الإسرائيلي ، وفق إحصاءات وزارة الصحة في غزة.
يذكر أنه في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، توصلت حماس وإسرائيل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وفق خطة للرئيس الأميركي، وبوساطة من مصر وقطر وتركيا، لكن إسرائيل واصلت خرق اتفاق وقف إطلاق النار، مما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة