في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أنقرة- أعلن حزب العمال الكردستاني -المصنّف في تركيا منظمة إرهابية- اليوم الأحد سحب جميع مقاتليه من الأراضي التركية إلى شمال العراق ، ضمن مسار "تركيا خالية من الإرهاب".
وجاء الإعلان عبر بيان رسمي تلاه قادة من الحزب خلال مؤتمر صحفي عُقد في منطقة جبال قنديل بشمال العراق، وهي المعقل الرئيسي للحزب، موضحا أن قرار الانسحاب جاء لتجنُّب خطر التصعيد أو وقوع اشتباكات غير مرغوبة داخل تركيا.
ويُمثِّل هذا التطور نقطة تحول غير مسبوقة في مسار الصراع الممتد منذ 4 عقود بين أنقرة والحزب، إذ يُنهي فعليا وجوده العسكري داخل الحدود التركية، وينقل عناصره إلى ما يُعرف بـ"مناطق الدفاع المشروع" في إقليم كردستان العراق ، وهي مناطق جبلية وعرة تتخذها قيادة الحزب قواعد خلفية منذ سنوات، أبرزها سلسلة جبال قنديل الممتدة على الحدود العراقية التركية الإيرانية.
وأحدث إعلان الحزب الانسحاب من الأراضي التركية تفاعلا واسعا في الأوساط السياسية بأنقرة، إذ قوبلت الخطوة بترحيب رسمي مشوب بالحذر، واعتبرتها الحكومة مؤشرا إيجابيا على طريق تحقيق هدفها المعلن "تركيا خالية من الإرهاب".
وأوضح المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، عمر جليك، أن خروج العناصر المسلحة من داخل البلاد ترافق مع "إشارات عملية نحو نزع السلاح"، مؤكدا أن أنقرة تراقب تنفيذ العملية ميدانيا لضمان جديتها واستمراريتها.
وفي المقابل، دعا الحزب الكردي الحكومة إلى اتخاذ إجراءات قانونية عاجلة تصون مسار السلام وتمنع أي انتكاسة محتملة.
وحذّر من محاولات الاستفزاز والتخريب السياسي والاستخباراتي من قبل "القوى التي تقف وراء السياسات الفوضوية في المناطق المجاورة"، مؤكدا أن الحكومة التركية تنفذ خارطة الطريق بثبات رغم تلك المحاولات.
ويعتبر الإعلان محطة مفصلية في مسار تفكيك التنظيم المسلح، إذ توجت بها سلسلة خطوات متدرجة قادها زعيم الحزب عبد الله أوجلان من داخل محبسه، تمهيدا لإغلاق أحد أكثر ملفات العنف تعقيدا في تاريخ الجمهورية التركية.
وتعود جذور هذا التحول إلى أواخر 2024، حين فاجأ دولت بهتشلي ، زعيم حزب الحركة القومية وشريك الرئيس رجب طيب أردوغان في الائتلاف الحاكم، الرأي العام بدعوة صريحة إلى أوجلان لإنهاء التمرد، وربط بهتشلي آنذاك بين حل الحزب كليا وإمكانية تخفيف العقوبة المفروضة على مؤسسه المسجون منذ عام 1999.
وبعد أسابيع من تلك الإشارة السياسية غير المسبوقة، بعث أوجلان في 27 فبراير/شباط 2025 برسالة تاريخية دعا فيها إلى "إلقاء السلاح والانتقال إلى النضال الديمقراطي"، مؤكدا أن المرحلة المقبلة يجب أن تقوم على الحوار السياسي ضمن الدولة التركية، لا على الكفاح المسلح.
استجابة لهذا النداء، أعلن حزب العمال الكردستاني في الأول من مارس/آذار الماضي، وقفا فوريا لإطلاق النار من جانب واحد، إيذانا ببدء هدنة هي الأطول منذ اندلاع النزاع.
وبعد شهرين، عقد الحزب مؤتمره الـ12 في جبال قنديل بشمال العراق، حيث اتخذ قرارا مصيريا يقضي بحل الحزب نفسه وإنهاء الكفاح المسلح.
وفي 11 يوليو/تموز الماضي، تجسَّدت رمزية هذا التحول في مشهد غير مسبوق، بمراسم علنية لنزع السلاح في أحد كهوف منطقة دوكان بمحافظة السليمانية ، حيث ألقى نحو 30 مقاتلا وقياديا أسلحتهم في النيران أمام عدسات الإعلام.
ويرى الأكاديمي في جامعة بورصة الدكتور محمد يوجا أن قرار حزب العمال الكردستاني يشكل منعطفا تاريخيا في معادلة الأمن والسياسة في تركيا، ويجب قراءته كإغلاق فعلي لمرحلة الكفاح المسلح التي امتدت لعقود، وتحول معلن نحو العمل السياسي.
وأوضح -في حديثه للجزيرة نت- أن الخطوة تعبر عن نية الحزب للتخلي عن السلاح والتموضع على الساحة السياسية، لكنها في الوقت نفسه تفتح الباب أمام سيناريو مقلق يتمثل في نقل الصراع إلى خارج الحدود الجغرافية لتركيا، مما يمنح التطور أبعادا مزدوجة من الناحية الإستراتيجية.
وأضاف أن الانسحاب، إذا ما نظرنا إليه من زاوية إيجابية، يُعد محطة وسطى على طريق تفكيك الحزب بالكامل، ويمنح الدولة التركية أفضلية نفسية وميدانية عبر استعادة زمام المبادرة على الأرض.
لكن السيناريو السلبي -برأيه- يتمثل في أن التنظيم، الذي سبق وأعلن حل نفسه ذاتيا، يعود الآن ليتخذ قرارا بالانسحاب، مما يثير تساؤلات عن جدية قراراته والتزامه الإستراتيجي، ويمنح الانطباع بأن ما يجري قد يكون مجرد مناورة تكتيكية غير مكتملة.
وشدّد يوجا على أن رد أنقرة يجب أن يتسم بالحذر واليقظة، إذ ينبغي للدولة أن تعتمد إستراتيجية قائمة على الحذر القانوني، والحزم الأمني، والانفتاح السياسي المشروط.
وخلص إلى أن الإستراتيجية المثلى التي ينبغي أن تتبناها الدولة التركية في هذه المرحلة هي تحقيق الأمن عبر الردع العسكري، والسلام عبر أدوات القوة الناعمة، أي المزج بين الحضور الأمني الحاسم ومسار تدريجي للديمقراطية وسيادة القانون، يضمن بناء حل مستدام يطوي صفحة 4 عقود من النزاع.
من جانبه، يرى المحلل السياسي، علي أسمر، أن انسحاب حزب العمال من الأراضي التركية يمثل تحولا استراتيجيا في لحظة تتقاطع فيها الحسابات السياسية والعسكرية مع مشروع "تركيا بلا إرهاب" الذي تتبناه أنقرة.
ويشير أسمر -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن القرار ليس تصرفا منفردا من الحزب، بل نتيجة تراكمات داخلية وإقليمية دفعت التنظيم إلى التسليم بواقع جديد فرضته المعادلات الميدانية والسياسية.
فمن الناحية السياسية، يعكس الانسحاب -بحسب أسمر- دخول تركيا مرحلة جديدة في إعادة بناء هويتها الوطنية الجامعة، بعد أن تراجعت مبررات العنف المسلح في ظل اتساع الحريات وتزايد فرص المشاركة السياسية.
كما أن توقيت الخطوة يرتبط مباشرة بتحولات الإقليم، وعلى رأسها التغير السياسي في سوريا بعد تشكيل الحكومة الجديدة في دمشق ، وهو ما يمنح أنقرة فرصة لإعادة التموضع الإقليمي من موقع أكثر استقرارا وثقة بالنفس.
#عاجل | أ ف ب: حزب العمال الكردستاني يعلن سحب جميع قواته من #تركيا إلى شمال #العراق pic.twitter.com/wTBNLRYiZG
— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 26, 2025
أما عسكريا، فيرى أسمر أن القرار يشكّل إقرارا ضمنيا بانكسار الحزب ميدانيا أمام عمليات الجيش التركي المتواصلة في شمالي العراق وسوريا، حيث دمّرت الحملات المتتابعة خطوط إمداد التنظيم وشبكاته اللوجيستية.
ويضيف أن الحزب اختار الانسحاب المنظم لتجنُّب الانهيار الكامل، في حين تمكنّت أنقرة من ترسيخ معادلة جديدة قوامها أن الأمن القومي التركي لا يتجزأ، بفضل التنسيق المتنامي مع بغداد و أربيل وتوسيع نطاق العمليات الاستباقية ضد بؤر الحزب.
لكن أسمر يُحذِّر من أن التحدي الحقيقي يبدأ بعد الانسحاب، فنجاح المرحلة المقبلة مرتبط بقدرة أنقرة على ضبط الفصائل المتبقية، خصوصا تلك المرتبطة ب قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وبإدارة الخطاب السياسي داخل حزب المساواة والديمقراطية الذي لا يزال بعض قياداته يتبنى مواقف متشددة.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة