تبدأ حرب الذاكرة حين تنتهي الحرب العسكرية، ويصبح المؤرخ كاسح ألغام، وحامل جرّافة تزيح ركام الأخبار، الصحيح منها والزائف.. يلزمه على الأقل شيئان في معركة الحقيقة: الموضوعية، ومسافة محترمة مع الأحداث.
تظل الموضوعية شرطا أساسيّا، أما المسافة الزمنية فلم تعد شرطا لازما، في حالة غزة؛ لأن غزة التي كانت قائمة قبل سنتين، كما يقول المحلل السياسي جان بيير فيليو، لم تعد قائمة، في كتاب يؤرخ للأحداث في الزمن الصفر، بعنوان "مؤرخ بغزة"، في فترة زمانية زار فيها غزة وعاين مأساتها، ما بين 19 ديسمبر/كانون الأول 2024، و21 يناير/كانون الثاني 2025، في ركاب منظمة "أطباء بلا حدود"، وهو الكتاب الذي صدر قبل شهور، وينقل فيه ما عاينه في فترة زمنية مكثفة.
غيّرت غزة القواعد السارية في العالم. هوت، كما يقول فيليو، ليس على رؤوس النساء والرجال والأطفال فقط، بل كذلك على قواعد القانون الدولي القائمة لتفادي الهمجية التي انتسجت في خضم الحرب العالمية الثانية.
هوت على المنظومة الدبلوماسية، بمواطن قوتها وضعفها، ولكنها الوسيلة التي من شأنها حل النزاعات، وليس تأجيجها. أضحت غزة، ومن خلالها عالم الغد، كما يقول، قبل أن تضع الحرب أوزارها، مجالا لأصحاب الصفقات، ومدرعات الذكاء الاصطناعي والكواسر التي تقتات من المآسي الإنسانية.
ما بقي من غزة يتحدى الكلمات، يقول فيليو، في فصول مروعة، منها تطويع المفاهيم، كما في "عالم 1984" لجورج أورويل، حيث تفيد المفاهيم الشيء ونقيضه. فمنطقة غزة، منذ 1967، تنعت في الأدبيات الإسرائيلية بمنطقة "التنسيق"، وهي تورية للاحتلال. والمنطقة أو المنطقة الإنسانية، هي منطقة حرب. والممرات الإنسانية، هي طرق للتهجير نحو الجنوب، ولا تمنح أي حصانة.
ليس هناك ملاذ آمن، بما فيها المستشفيات. يعرض فيليو في فصل بعنوان "المستشفيات" لكل ما تعرفه مستشفيات غزة من اعتداءات، من مستشفى كمال عدوان، إلى مستشفى الوفاء، فالأهلي، والمستشفى الإندونيسي، ومستشفى الرنتيسي للأطفال، ومستشفى الشفاء، ومستشفى ناصر.. كلها كانت أهدافا عسكرية، انطلاقا من زعم نتنياهو وحكومته؛ لتبرير انتهاك القانون الإنساني، بدعوى أنها "قواعد إرهابية"، ولكنهم، يقول فيليو، لم يستطيعوا أن يقدموا حججا دامغة تدعم المزاعم الخطيرة تلك، ولكن الثابت، كما يقول، هو أن الجيش الإسرائيلي استعمل باحات المستشفيات لعملياته العسكرية. أما المزاعم الإسرائيلية، فقد ثبت، كما يؤكد، أنها واهية وصدمت جهات إعلامية أبعد ما تكون عن "حماس"، بل مناوئة لها.
والمستشفيات هي طاقم طبي يتحدى الموت. كما في هذه الصورة التي نقلها فيليو، لصاروخ اخترق مستشفى العودة، بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وأردى الطبيبين أحمد السحار، ومحمود أبو نجلية الذي كتب في لوحة العمليات الجراحية: "من يبقى حتى النهاية، يمكنه أن يحكي القصة. قمنا بما نستطيعه. لا تنسونا". (الجملة مترجمة عن الفرنسية).
الشهود ليسوا في منأى من القتل، بل هم أهداف مقصودة، ويعني فيليو بالشهود الصحفيين. من الشهادات المروعة، ما قالته الصحفية آيات خضورة، قبل أن تحصدها قذيفة هوت على بيتها في بيت لاهيا، فيما هو وصية مسجلة: "كانت لنا أحلام كبرى، ولكن للأسف، حلمنا اليوم، هو ألا يتناثر جسدنا أثناء الموت، كي يتم التعرف علينا، عوض أن يضحي أشلاء، تجمع في كيس". (عن النص الفرنسي).
الصحفي محارب، لأنه ينقض السردية التي تريد أن تشيعها البروباغندا الإسرائيلية، ولأنه ينتصب ضد الاعتياد على المأساة. يقول فيليو: "يعرف المؤرخ من خلال التجربة أن الأذهان تلتئم شيئا فشيئا مع النزاعات التي تطول… (ولذلك) يموت ضحايا غزة مرتين؛ المرة الأولى حينما تستهدفهم الآلة الحربية الإسرائيلية، في أجسادهم، أو تخنقهم رويدا رويدا في خيامهم. والثانية حينما يتم الالتفاف على حجم مأساتهم وخسائرهم من لدن البروباغندا الإسرائيلية، بَلْهَ، اتهامهم بشكل جماعي أو فردي بكونهم إرهابيين".
تضحي المساعدات الإنسانية مجالا للفوضى ولظاهرة مقرفة، ينعتها بـ"سباع الطير"، ممن يقتاتون من المآسي الإنسانية، ويفضي الأمر إلى اقتتال مروّع، كما في مجزرة الطحين حينما تجمع عشرات الآلاف من المدنيين على جنبات الشاطئ والطريق في انتظار المساعدات، وتحول الأمر إلى مجزرة حين أطلقت القوات الإسرائيلية النار، وعمت الفوضى. من لم يمت بالنار، مات بالازدحام والفوضى.
تشجع إسرائيل عصابات تشتغل لصالحها، وتسعى أن تتحكم في المساعدات، كما يقول فيليو، في شهادة صادمة. 40 ٪ من شاحنات المساعدات يتم نهبها من قِبل عصابات مدعومة من قبل الجيش الإسرائيلي.
يفضي الوضع إلى من يستطيع أن "يدبر حاله"، بشتى الطرق والوسائل، أمام ندرة كل شيء، من الحطب، والمحروقات، والمواد الغذائية، بل السيولة النقدية.
يروغ الغزيون إلى الاحتطاب، ولا يمنعهم من ذلك نيران القوات الإسرائيلية. تنشط المقايضة في غياب السيولة النقدية. ويكتشف الغزّي صديقا يأتمنه في نقله، وهو الحمار.
لا شيء يقف أمام ضرورة العيش، منها الكاتب محمد عساف، صاحب مكتبة تنيف عن 30 ألف كتاب، هي نتاج عمر، انتهى به المطاف تحت خيمة في دير البلح. يتلقى عرضا من صاحب مخبز كي يشتري منه مكتبته ليستعملها وقودا، من "أجل إطعام شعبه". وهل يقبل أن تتحول المعرفة إلى رماد؟ يأبى عرضا هو شبيه باغتيال. تظهر تصرفات مشينة، ناتجة عن نزع إنسانية الضحية، بتجويعه، وتكديسه في خيام.. لا يتورع عن السرقة، وعن الاعتداء الجنسي.
تتحول المفاهيم في غزة، كما الموت والانتظار. ليس للموت تاريخ معين، ولا قواعد. يمكن أن يحصد الصغار قبل الكبار. يمكن أن يضرب في الليل كما في النهار، مع إنذار أو بدون إنذار، في الطريق، في السوق، في الخيام، بين الخيام، على مدخل ممر، حين الدخول، أو حين الخروج، في المنطقة الإنسانية. موت أفراد فجأة، أو أسرة بكاملها.
لم يعد الموت يقترن بالمواجهة في الجبهة، وما يحيطها من هالة وغار النصر. أضحى الموت بشعا ومتحولا. وحتى الطقوس المصاحبة له، تحولت… من تكفين وتشييع، ودفن ومأتم، ومقابر. كل شيء تغير في غزة.
يظل ساكن غزة ينتظر المساعدات، وينتظر الهدنة، ويترقب وقف إطلاق النار.. لينثني إلى حقيقة مؤلمة، تلك التي رسمها فيليو. "يدرك شعب غزة، أن العالم تخلى عنه. اعتقد في أول الأمر أن صور المجزرة ستحرك الرأي العام الدولي، وتدفعه للتدخل لوضع حد لها. وحينما تبين عدم جدوى ذلك، راغ إلى وعي مؤلم، مما ضاعف من قروحه، إلى جانب الأجساد الجريحة، يثلب سلبية الأنظمة العربية، بل تواطؤها. لا ينتظر كبير أمر من الدول الأوروبية، أما الأمم المتحدة، فيقدّر جهودها وحضورها، لكن يدرك عجز المنظمات الدولية، أمام ديكتات المحتل".
يضحي الانتظار وضعا. انتظار الهدنة، على الأقل، في انتظار وقف إطلاق النار. انتظار عودة النازحين لأماكنهم. انتظار دفن الأقارب بما يليق بهم. انتظار مهلة، لفترة استرجاع النفَس، لأخذ "دوش"، لليل بكهرباء، لحياة عادية.
يستيقظ ساكنو غزة يوم 16 يناير/كانون الثاني 2025 على إعلان الهدنة، ثم يتبدى أن ما كان أملا إن هو إلا سراب، ويستمر التقتيل، ثم لا تنتهي المأساة.
هي شهادة لخمسة أسابيع، لم تغطِّ غزة كلها، ولكنها تعطي لمحة عن النكبة الثانية، التي هي أشد إيلاما- مثلما يقر فيليو- من الأولى.
كانت شهادة فيليو، قبل زهاء سنة، ولم تتوقف فيها آلة التقتيل. ويستبق فيليو مآل الأحداث. نعم، توقفت الحرب، لكن هل يقوم السلام في عالم حيث التنازل يغدو واقعية، ومن يحذِقون الدسائس، يفضلون التضحية بغزة، من أجل كسب دعم الولايات المتحدة في أوكرانيا… تضحي غزة، باسم القوانين الجديدة، لعالم جديد، ورقة مقايضة. لكن خيال التاريخ أخصب من خيال الجبابرة، أو شمشون، عنوان الفصل الأخير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.