نابلس- في قاعة بنك الدم بمدينة نابلس كان المشهد يعكس روحا عالية من الوحدة، متطوعون يصطفون بهدوء، بعضهم يحمل بطاقته الشخصية، وآخرون يستلقون على كراسي التبرع، وبينهم جلس الشاب أحمد محمد (26 عاما) يمد ذراعه مبتسما وهو يقول "قد تكون قطرة دم من أحدنا سببا في بقاء إنسان على قيد الحياة في غزة ".
هكذا يلخّص المتبرعون في حملة "دمنا واحد" دوافعهم للمشاركة، مؤكدين أن التبرع ليس مجرد إجراء طبي، بل رسالة تضامن إنساني ووحدة وطنية في مواجهة الحصار والعدوان، ومع استمرار الحملة في جمع آلاف الوحدات، يرون أن ما يقدمونه هو أبسط أشكال الدعم لإخوانهم الذين يواجهون كارثة صحية غير مسبوقة في القطاع.
"الهم الفلسطيني واحد والوجع الفلسطيني واحد"، بهذه العبارة يصف المشاركون شعورهم، بينما يتوافد مئات الفلسطينيين في مدن الضفة الغربية إلى بنوك الدم التابعة لوزارة الصحة للتبرع بدمائهم لصالح المرضى والجرحى في غزة.
يقول الشاب محمد إن "هذه الخطوة لا تكفي وحدها بالتأكيد، لكنها مهمة، لو استمرت بشكل دوري وشارك فيها أكبر عدد من الناس، يمكن أن تسد جزءا من الحاجة، خاصة أن أهل غزة لا يستطيعون التبرع بسهولة بسبب ظروف الحرب والحصار".
من جانبه، أكد أسامة النجار وكيل وزارة الصحة الفلسطينية ونقيب نقابة الطب المخبري الفلسطينية للجزيرة نت أن الجولة الثامنة من حملة "دمنا واحد" للتبرع بالدم لأهالي غزة تأتي استجابة للحاجة الماسة في مستشفيات القطاع، وبدعم من منظمة الصحة العالمية التي نسقت عملية إدخال وحدات الدم في هذا التوقيت.
وأوضح أن الهدف الأساسي من إطلاق الجولة الجديدة هو تلبية النقص الكبير في وحدات الدم داخل غزة، مشيرا إلى أن التنسيق مع المنظمة ساعد في تحديد موعد مناسب لإدخال الدم نظرا لقصر مدة صلاحيته، ما يستدعي جهدا كبيرا لضمان وصوله في الوقت المناسب.
وتحدث النجار عن الصعوبات التي تواجه هذه الحملات والتي تكمن في عملية النقل والتوزيع بدءا بجمع الدم من مختلف بنوك الدم في الضفة الغربية، ثم نقله إلى بنك الدم المركزي لفرزه وتجهيزه، وصولا إلى العقبات الإسرائيلية المتعلقة بالإجراءات والتنسيق عند المعابر.
كما تشمل هذه الإجراءات -وفقا له- إعداد قوائم تفصيلية بالكميات والفصائل، وترتيبها في صناديق خاصة، ثم وضعها في حاويات مخصصة مع أوراق تنسيق خاصة، إلى جانب صعوبات إدخال الدم إلى غزة حيث يحتاج إلى حفظ مبرد وتوزيع منظم على المستشفيات.
ولفت النجار إلى أن الإقبال على التبرع منذ الأيام الأولى كان "جيدا جدا" مضيفا أن الحملة استمرت حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2025 بهدف جمع أكثر من 3000 وحدة دم لتغطية جزء من احتياجات المستشفيات في غزة.
كما نبه وكيل وزارة الصحة الفلسطينية إلى أن استهلاك الدم في غزة مرتفع للغاية بسبب كثرة الإصابات، واستشهد بما حدث في مستشفى ناصر الطبي في خان يونس قبل أسابيع، حيث تم استخدام 450 وحدة في يوم واحد فقط لعلاج الجرحى. وأضاف "لا توجد إمكانية للتبرع بالدم داخل القطاع نتيجة الظروف الصعبة و التجويع الذي يعانيه السكان، ما يجعل الاعتماد على حملات الضفة أمرا ضروريا".
وشدد على أن هذه الحملات ساهمت بشكل كبير في رفد بنوك الدم والمرافق الطبية القليلة التي لا زالت قادرة على العمل، بالدم والبلازما اللازمة لإنقاذ الأرواح. وختم قائلا "ربما قطرة دم من عندنا تنقذ حياة مواطن في غزة، لذا ندعو أبناء شعبنا لمواصلة التبرع، ونأمل أن تستمر هذه الحملات حتى تنتهي الحرب الوحشية على القطاع".
من جهتها، بينت صوفيا زعرب مسؤولة مختبرات الدم في غزة للجزيرة نت أن النقص في وحدات الدم داخل مستشفيات القطاع "شديد وكارثي"، وأنه لا يقتصر على كميات الدم بل يشمل أيضا المستلزمات المخبرية اللازمة لفحص وحدات الدم قبل إعطائها للمرضى.
وأشارت زعرب إلى غياب الفحوصات الدقيقة الخاصة بالكشف عن الأمراض المعدية مثل التهاب الكبد الوبائي "سي وبي" وفيروس نقص المناعة، حيث يضطر الأطباء إلى استخدام شرائط فحص بدائية (السلايدات) غير دقيقة وتحتمل نسبة خطأ، مما يزيد خطورة الوضع.
وكشفت أن الحاجة لا تقتصر على الجرحى الناتجين عن العدوان، بل تهم كذلك مرضى الأورام الذين يحتاجون لنقل الدم ومكوناته بشكل مستمر خلال العلاج الكيماوي، ومرضى الثلاسيميا (أنيميا البحر الأبيض المتوسط) "الذين لا علاج لهم سوى الدم مدى الحياة"، إضافة إلى مرضى الفشل المزمن. وتؤكد "هؤلاء يولدون وهم بحاجة للدم حتى آخر يوم في حياتهم".
وبينت الدكتورة صوفيا زعرب أن جميع فصائل الدم مطلوبة، لكن الأكثر إلحاحا هي (O +A ،+B+)، إضافة إلى جميع الفصائل السالبة التي تعد نادرة وحيوية لإنقاذ الحالات الطارئة.
وتصف تأثير الأزمة بـ"الصورة السلبية جدا"، موضحة أن الطواقم الطبية مرهقة ومنهكة وتضطر يوميا لإطلاق نداءات استغاثة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، و"رغم قلة الاستجابة الدولية، إلا أن حملات الضفة الغربية شكلت بارقة أمل وسندا فعليا".
وأفادت بأن حملة "دمنا واحد" تشكل دعما حقيقيا، إذ وصل الشهر الماضي حوالي 6 آلاف وحدة دم إلى غزة عبر منظمة الصحة العالمية، وهو ما أنقذ حياة العديد من المصابين وخفف العبء عن الكوادر الطبية، وتضيف "هذه الوحدات وصلت مفحوصة وجاهزة للاستخدام، وهو أمر بالغ الأهمية".
وعن آلية وصول الدم إلى القطاع، أكدت زعرب أنه يُجمع في الضفة ويُجهّز عبر وزارة الصحة الفلسطينية، ثم ينقل بواسطة ثلاجات مبردة عبر معبر كرم أبو سالم بالتنسيق مع المنظمة.
وثمنت الجهود المبذولة في هذه المبادرة وأكدت أنها "ممتازة جدا ويجب أن تستمر"، مشيرة إلى أنها تخفف كثيرا من معاناة المرضى والأطباء في غزة، وأوضحت "الموضوع لا يتعلق بكيس دم فقط إنما هو شريان حياة، وحدة دم واحدة يمكنها تنقذ حياة مريض أو جريح من الموت".