آخر الأخبار

التعليم في غزة: جيل يكافح للحفاظ على حقه في الدراسة

شارك
مصدر الصورة

في أحد أزقّة مدينة غزة، تقف سارة محمد رياض في طابور طويل، تحمل بيديها إناء ماء ضخماً يثقل كاهلها. لم تلتحق بمدرسة منذ عامين، ولم تعد تسمع الجرس الذي كان يعلن بدء الحصّة. صارت أيامها تُقاس برحلات تعبئة المياه والانتظار أمام مراكز المساعدات. تقول سارة بصوت متعب ممزوج بالحنين:

"لم نذهب إلى المدارس منذ سنتين… كل ما نفعله هو تعبئة الماء أو اللعب. كان هناك معلّم واحد يدرّسنا في بيته، لكن ذلك لم يكن مدرسة حقيقية. أتمنى أن نعود كما كنّا."

ثم تسرد سارة قصة صديقة لها قتلت أثناء الحرب. كلماتها وذكرياتها تختصر معاناة جيل كامل يعيش طفولة معلّقة بين الخوف والحرمان

مصدر الصورة

أحلام مؤجلة في الخيام

ليست هذه المعاناة قاصرة على سارة وحدها. فأعداد كبيرة من الأطفال في غزة يعانون من عدم وجود مدارس نتيجة للحرب الإسرائيلية في القطاع.

وفي خيمة أخرى، تجلس ماسة أبو شعبان (11 عاماً) على قطعة قماش بالية تحاول حفظ بعض الدروس. لكن حياتها لا تقتصر على القراءة؛ إذ يتعيّن عليها أن تبحث عن الحطب مع إخوتها، وأن تقف في طوابير المساعدات لساعات طويلة. وبرغم هذا العبء المبكر، لا يزال قلبها معلّقاً بحلم يتجاوز حدود الحرب: أن تصبح طبيبة تنقذ حياة الآخرين.

الخيمة التي تدرس فيها ماسة ليست سوى واحدة من عشرات "النقاط التعليمية" التي أقامها الأهالي والمتطوّعون. مقاعد قليلة، وسبّورة قديمة، وضجيج أطفال يحاولون كتابة الحروف بينما تتسرّب أصوات القصف من بعيد.


*
*

مدارس تحت الركام: 95٪ خارج الخدمة

مع بداية العام الدراسي الجديد، حمل ملايين الأطفال حول العالم حقائبهم واتجهوا إلى صفوفهم المدرسية. لكن في غزة، لم تعد هناك صفوف ولا حقائب. فالمباني التي كانت تضج بضحكات الصغار تحوّلت إلى هياكل من الإسمنت المهدّم، أو إلى ملاجئ مكتظة بالنازحين.

لا يزال أكثر من 650 ألف طفل في غزة محرومين من هذا الحق الأساسي. فوفقًا لتقارير اليونيسف والأونروا، تعرضت 95٪ من مدارس القطاع للدمار أو الضرر البالغ، أي أن نحو 500 مدرسة من أصل 564 لم تعد صالحة للاستخدام. كثير من هذه المدارس تحولت إلى ملاجئ للنازحين، حيث صارت الفصول مساحات للنوم، والساحات خياماً مكتظة.

في إحدى هذه المدارس، يجلس عبد أبو عودة مع أسرته داخل غرفة صفية كانت يومًا مزدانة بالرسومات والسبّورات. الآن لم يتبقَّ من ملامحها سوى جدران باهتة وخيام منصوبة في الساحة الخارجية. الأطفال الذين كانوا يهرولون بين الممرات حاملين دفاترهم، صاروا يتقاسمون الأرض مع مئات النازحين الباحثين عن مأوى.

لم تعد المدرسة مكانًا للتعليم، بل تحوّلت إلى محطة انتظار طويلة. كل صباح، يفتح عبد عينيه على مشهد أبنائه وهم يقفون في صفوف المساعدات الغذائية بدلا من طابور الصباح المدرسي. لم يعد همّهم إنجاز الواجبات الدراسية، بل الحصول على وجبة ساخنة من مطبخ خيري. وبينما يراقبهم، يشعر أن مستقبلاً كاملاً يضيع في طوابير الطعام والماء.

وفي صوته حزن ممزوج برجاء: أن تُنشأ مراكز تعليمية مؤقتة، حتى لو كانت داخل خيام، لأن الأجيال هنا، كما يقول، "تذبل ببطء بعيدًا عن الكتب والسبّورات."

مصدر الصورة

مبادرات فردية وسط الركام

في حي آخر، قرر الأستاذ فايز رجب أن يحوّل منزله إلى فصل دراسي. غرفة صغيرة تتكدس فيها عشرة مقاعد بلاستيكية وسبّورة علّقها على جدار متصدّع. يقول إن الأطفال يقبلون على التحصيل الدراسي بحماس رغم الظروف، لكن أذهانهم مشغولة بالنجاة أكثر من الدراسة.

بعضهم يترك الحصة ليحمل جالون ماء أو لينضم إلى أمه في طابور المساعدات. ومع ذلك، لا يتوقف فايز عن المحاولة. بالنسبة له، مجرد اجتماع هؤلاء الأطفال في غرفة واحدة وفتح كتبهم القديمة يُعد انتصاراً صغيراً في وجه الحرب.

تجلس سارة عامر، ذات الأعوام الثلاثة عشر، على قطعة قماش قديمة، تحاول متابعة شرح أستاذ واحد يقوم بتدريس جميع المواد. المكان ضيق، الوجوه متعبة، وفي أي لحظة قد تتحول الغرفة إلى ركام. سارة تعرف ذلك جيداً، فقد رأت بنفسها مركزاً تعليمياً يُقصف أمام عينيها، وهناك فقدت صديقتها ساقها. بالنسبة لها، الدراسة اليوم ليست مقاعد وصفوف، بل محاولة يائسة لحفظ الحروف في مساحة مؤقتة محاطة بالخوف.

على الجانب الآخر من المخيم، تتحرك تالا أبو عمر بين خيمة وأخرى، تبحث عن مكان يشبه المدرسة. البرد يتسلل في الشتاء، والحرارة خانقة في الصيف، بينما تتكرر المهام اليومية: تعبئة المياه، انتظار وجبة من التكية، ثم العودة إلى الخيمة الفارغة. منذ عامين لم تفتح كتابًا جديدًا، وكل ما تتمناه أن تستعيد مشهدها القديم وهي تمسك بحقيبة مدرسية وتتجه إلى صفوف حقيقية.

بدائل التعليم في غزة تحت القصف: من المدارس إلى الملاجئ

داخل أحد مخيمات النزوح في غزة، تجلس أم يزن محاطة بأطفالها الخمسة. مدرستهم التي كانوا يقصدونها يوميًا لم تعد قائمة، بعدما طالتها الغارات الإسرائيلية وتحولت إلى ركام. لم يبق أمامها سوى النقاط التعليمية البديلة التي أقامتها مبادرات محلية، حيث تحاول إيصال ابنتيها، ماسة ومسك، إليها رغم مشقة الطريق وصعوبة الظروف.

بالنسبة لهذه الأم، لم يعد التعليم مجرد خيار، بل محاولة يائسة لإنقاذ ما تبقى من طفولة أبنائها. لكنها تدرك أن هذه النقاط مؤقتة وهشة، فكثير منها أُغلق بعد نزوح السكان نتيجة القصف المتكرر أو بسبب تحذيرات عسكرية أجبرت الأهالي على ترك مناطقهم.

المدارس التي كانت يوماً مقاعد للتعلم صارت اليوم ملاجئ للنازحين، مكتظة بالخيام والوجوه المرهقة. ومع كل صباح، تحمل أم يزن في قلبها رجاءً واحدًا: أن يجد أطفالها فرصة للحياة مثل بقية أطفال العالم، وأن يظل حلم التعليم ممكنًا في مكان حاصرته الحرب.

مصدر الصورة

اليونيسف: دمار المدارس يفاقم أزمات الأطفال والمعلمين في غزة

وسط صفوف تحولت إلى أنقاض وخيام، ترى اليونيسف أن المعلمين في غزة يواجهون واحدة من أصعب الأزمات، حيث ضاع حق الأطفال في التعلم وتزايدت المخاطر الاجتماعية عليهم. وهو ما حرم الأطفال من فرص أساسية في التعلم وزاد من مخاطر الاستغلال وعمالة الأطفال والزواج المبكر. وتشير المنظمة إلى أنها تعمل على إنشاء مساحات تعليمية مؤقتة وتقديم دعم نفسي واجتماعي للطلاب والمعلمين، إلى جانب تدريب الكوادر وتوزيع المستلزمات التعليمية الضرورية. لكنها تحذر في الوقت نفسه من أن هذه الجهود ستظل محدودة من دون وقف لإطلاق النار وضمان دخول المساعدات الإنسانية وتهيئة مساحات آمنة للتعلم.

وزارة التعليم: مدارس مدمرة وأرقام مفزعة

قال صادق الخضور، المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم الفلسطينية في رام الله لبي بي سي عربي، إن العدوان على غزة ألحق دماراً واسعاً بالقطاع التعليمي، حيث كان القطاع يضم نحو 550 مدرسة ما بين حكومية ومدارس وكالة الأونروا، بينها 287 مبنى حكوميًا يخدم 400 مدرسة تعمل بنظام الفترتين.

وأوضح أن الخسائر البشرية كانت مؤلمة بالقدر نفسه، إذ يشير إلى مقتل ما يقارب 18 ألف طالب وطالبة، إضافة إلى 1,500 طالب جامعي، إلى جانب 750 معلماً من مدارس غزة وأكثر من 230 أستاذا جامعيا.

بدائل هشة: النقاط التعليمية والمدارس الافتراضية

كما أشار إلى أن الوزارة اعتمدت خلال الفترة الماضية 234 نقطة تعليمية مؤقتة تستوعب نحو 80 ألف طالب، بالتعاون مع مبادرات المجتمع المدني. لكن العدد تراجع عن مراحل سابقة بسبب القصف المستمر واستهداف التجمعات التعليمية.

كما أطلقت الوزارة مشروع 25 مدرسة افتراضية بمشاركة نحو 1,500 معلم ومعلمة من الضفة الغربية، سجّل فيها أكثر من 130 ألف طالب خلال يومين فقط. ورغم أن التجربة ما زالت محدودة، إلا أنها توفر متنفسًا تعليميًا في ظل توقف معظم المدارس عن العمل.

إصرار الطلبة على التعلم رغم الحرب

ويؤكد الخضور أن شغف الطلاب بالتعلم ظل حاضراً رغم النزوح والدمار، مشيرًا إلى أن آلاف الأطفال ينجزون واجباتهم ويشاركون في الحصص حتى من بين الركام. وأضاف أن نحو 26 ألف طالب من مواليد 2006 يتقدمون حاليًا لامتحان الثانوية العامة إلكترونيًا، بعدما حرموا من أدائه في العام الأول للعدوان. بالنسبة للوزارة، هذا الإقبال يبرهن على أن التعليم في غزة لم ينكسر رغم كل التحديات.

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا