آخر الأخبار

ماذا فعل أنس لإسرائيل؟

شارك

نفذت إسرائيل عشرات عمليات الاغتيال بحق مئات الصحفيين في قطاع غزة، خلال حربها المستمرة في محاولة لطمس الحقيقة، ومنع صور القتل من أن تصل إلى العالم.

حرب غزة لم تكن تقتل الإنسان الفلسطيني فحسب، بل كانت تسعى لاغتيال الرواية، وتجريد المأساة من شهودها.

ومع اتساع المعركة وقسوتها، خصوصا في أسابيعها الأولى، أصبح انخراط الصحفي الفلسطيني في معركة الصورة قرارا محفوفا بالموت، يتطلب شجاعة استثنائية واستعدادا لدفع الروح ثمنا للحقيقة.

برزت قناة الجزيرة كأحد أهم المنابر التي نقلت أدق تفاصيل الحرب، عبر شبكة مراسليها في الميدان، وقد نجحت القناة بتغطية حرب غزة، وتعتبر هذه التغطية من أهم وأخطر التغطيات؛ كونها تغطي حربا طويلة ومدمرة، وفي مساحة صغيرة، وانعدام مقومات التغطية المعتادة من كهرباء، وسولار، واتصالات وإنترنت، في أوقات كثيرة لم يعتد عليها الصحفيون في العقود الأخيرة، ورغم هذه التحديات كانت دقيقة ومستمرة دون أي تراجع في كل فصول الحرب الدائرة، رغم الثمن الكبير الذي دفعته القناة.

لكن إسرائيل، التي أدركت خطورة هذا الصوت على صورتها، استهدفت الجزيرة بشكل ممنهج، فاغتالت عائلات بعض مراسليها، مثل الصحفي وائل الدحدوح، الذي فقد أسرته في غارة إسرائيلية، وتعرض هو نفسه للاستهداف، إلى جانب المصور الشهيد سامر أبو دقة، واغتيال الصحفي إسماعيل الغول، ثم استهداف الصحفي حمزة الدحدوح.

آخر فصول هذا الاستهداف تمثل في اغتيال فريق عمل الجزيرة في شمال قطاع غزة ومدينة غزة، وعلى رأسهم الصحفي أنس الشريف، والصحفي محمد قريقع، وآخرون من طاقم القناة.

باغتيال أنس الشريف وطاقم الجزيرة في غزة، يرتفع عدد الشهداء الصحفيين في هذه الحرب إلى 237 شهيدا، حسب إحصائيات محلية فلسطينية في واحدة من أكثر الحملات دموية ضد الإعلاميين في العصر الحديث.

إعلان

وأكدت منظمات دولية مثل "مراسلون بلا حدود" أن حجم الاستهداف غير مسبوق، وأن كثيرا من هؤلاء الصحفيين قُتلوا مع عائلاتهم داخل منازلهم أو أثناء ممارسة عملهم الميداني، ما يشير إلى سياسة ممنهجة لإسكات الشهود.

وذلك رغم أن استهداف الصحفيين في مناطق القتال يُعد جريمة حرب واضحة وفق اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، الذي يضمن حماية العاملين في الإعلام بوصفهم مدنيين.

وقد دعت منظمات حقوقية ومحاكم دولية إلى فتح تحقيق عاجل في جرائم استهداف الإعلاميين في غزة، ورغم ذلك لم تعر إسرائيل أي اهتمام لهذه المواثيق والقوانين، وواصلت قتل الصحفيين، وأحيانا تكون عملية الاغتيال بعد دقائق من آخر رسالة إعلامية، كما جرى مع الصحفي محمد قريقع.

كان أنس الشريف، مراسل الجزيرة في شمال القطاع، شاهدا حيا على أفظع المجازر التي شهدها مخيم جباليا مسقط رأسه ومهوى قلبه. من يتابعه كان يشعر أنه حاضر في كل مكان يتعرض للقصف، متحديا النار والخطر، لينقل الحقيقة دون مونتاج أو تزييف، ملتزما برواية الواقع كما هو.

صُور أنس وجرأته ألحقتا ضررا كبيرا بصورة إسرائيل عالميا، وساهمتا في تحريك الرأي العام ومؤسسات العدالة الدولية نحو النظر في جرائم الحرب، ولولا رواية أنس وزملائه لغابت الحقيقة.

اختار أنس أن يكون صحفيا مؤتمنا على رسالته في أصعب الأوقات، ونجح كجيل صحفي شاب في توثيق المجزرة الجارية في غزة ببراعة.

شكّل صوته وشاشة الجزيرة نافذة للعالم على مأساة التجويع التي فرضتها إسرائيل على شمال القطاع مطلع 2024، وكان له دور بارز في نقل معاناة الناس في ظل الحصار والجوع: في الحصار الأول لمدينة غزة مطلع عام 2024، وفي حرب التجويع الثانية التي خصصت لها الجزيرة مساحة واسعة، وكان أنس ومحمد قريقع جزءا من ناقلي هذه المأساة الحديثة.

إسرائيل، التي أدركت هذا الدور، حاولت إسكاته عبر التهديدات المباشرة، والاتصالات به، وحتى تصريحات الناطق باسم جيشها، أفيخاي أدرعي، الذي شن هجمات إعلامية متكررة على الجزيرة ومراسليها، خاصة أنس الشريف والصحفي فيها تامر المسحال الذي هاجمته مؤسسة الناطق باسم الجيش أكثر من مرة؛ بسبب تغطية مراسلي الجزيرة في غزة تفاصيل الحرب، في إشارة إلى ضيقها بالمشهد الإعلامي الخارج من قطاع غزة، كل ذلك كان مؤشرا على نوايا إسرائيل تجاه القناة.

تستدعي جريمة اغتيال الصحفيين في قطاع غزة رد فعل عاجلا وقويا على المستويين الفلسطيني والدولي. فلسطينيا، يجب توحيد الجهود لتشكيل لجنة وطنية لمتابعة ملف استهداف الإعلاميين، والعمل على توثيق كل الانتهاكات وتقديمها إلى الجهات القضائية الدولية. كذلك تعزيز حماية الصحفيين داخل قطاع غزة من خلال توفير آليات دعم قانوني لهم، والتأكيد على حرية الإعلام كحق أساسي لا يمكن التنازل عنه مهما اشتدت الظروف.

أما على الصعيد الدولي، فتتوجب على منظمات حقوق الإنسان ومنظمات حماية الصحفيين الضغط على المجتمع الدولي لتفعيل آليات المساءلة، وفتح تحقيقات مستقلة وشفافة في جرائم الحرب المرتكبة بحق الإعلاميين. ويجب أن تشمل هذه التحقيقات محاسبة قادة الاحتلال المسؤولين عن إصدار أوامر الاستهداف.

غزة نامت حزينة على أنس ورفاقه.. وبكته بيوت غزة كأنه ابن لكل أسرة

رحل أنس الشريف ومحمد قريقع، لكن صوتهما وصورهما ستبقى شاهدة على جريمة لن تسقط بالتقادم. لم تكن رصاصات الاحتلال موجهة لأجسادهما فقط، بل كانت تستهدف الكاميرا التي وثقت، والميكروفون الذي صدح، والحقيقة التي أوجعت.

إعلان

ستظل الجزيرة، رغم الخسائر والجراح، منبرا مفتوحا ينقل للعالم نبض غزة وألمها وصمودها. وفي كل مشهد يوثق، وفي كل كلمة تُقال، سيعيش أنس ومحمد وكل شهداء الكلمة، لتبقى الصورة أقوى من الرصاص، ولتبقى الحقيقة عصيّة على الاغتيال، ولتبقى التغطية مستمرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا