في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غزة- إنها الصورة الأولى للجنين الذي تحمله سارة التي تقطن قطاع غزة في أحشائها منذ 6 شهور، تلمع عيناها وهي تنظر في شاشة التصوير التلفزيوني لفحص (الألتراساوند) لتتعرف على جنس طفلها الأول وتتأكد من سلامته.
وبينما تمسك الطبيبة الجهاز بيدها وتمسح به فوق بطن سارة، تبدو مرتابة ومتوترة، ثم تضع الجهاز وتخرج لتنادي الطبيب المشرف الذي أعاد الفحص ثانية.
وفي حين بدا الطبيبان في حالة مستغربة ويتحدثان معا بالإنجليزية، لم تستطيع سارة تفسير المشهد، ثم تنَّهد الطبيب قبل أن يصارحها قائلا: "إرادة الله شاءت أن تحملي طفلة بلا رأس"، مما حوَّل لهفة سارة لكابوس، وراحت تهز رأسها رافضة تصديق الخبر، وتوسلت للطبيب وهي تذرف دموعها "أمانة يا دكتور لا، أمانة قل لي إنك تمزح"، ثم انهارت وهي تحتضن بطنها وتقول: "حبيبتي يا ماما والله كنت أنتظرك على نار".
سألت الجزيرة نت، وقد حضرت في العيادة النسائية خلال الفحص، الطبيبة عما إذا كان بالإمكان "الإجهاض في هذه الحالات؟"، فقالت "من الناحية الشرعية لا يمكننا إجهاض الحمل إذا كان الطفل حيّا بعد الأسبوع الـ16، لأن الروح تكون قد نفخت في الجنين، إلا إذا كان وجود الجنين يشكل خطرا على الأم".
وتواصل الطبيبة بعد أن تخلع قفازاتها "هذه الحالة الثانية التي تصلنا اليوم للتشوه نفسه، لقد أصبح الأمر مقلقا للغاية".
"أطفال بلا جماجم يولدون بوجه كالضفدع" كما يصفهم الأطباء، حيث نشرت وزارة الصحة الفلسطينية صورة الطفلة ملك القانوع التي ولدت بهذا النوع من التشوه.
وتواصلت الجزيرة نت مع والدة ملك التي منعتها حالة الانهيار التي تعيشها من الحديث، فقبل ميلادها بساعات علمت أم ملك أن طفلتها بلا جمجمة، ولم يسعفها الوقت لاستيعاب الصدمة فأجرت مباشرة عملية الولادة القيصرية لطفلتها المشوهة، التي تولت الجدة مسؤولية العناية بها، بعد أن رفضت الأم حملها أو النظر إليها أو حتى تغيير ملابسها.
ولا تريد الأم لقلبها أن يتعلق بابنتها التي أخبرها الأطباء أنه يفصلها عن الموت أيام، وتقول الجدة للجزيرة نت: "لم تفتح ملك عينيها، ولم تر النور أو وجه أمها، وليس بمقدورها الرضاعة، فهي بلا فك، وأسقيها الحليب عبر أنابيب موصولة في الأنف".
وتعتقد الجدة أنَّ تشوه الطفلة يعود لاستنشاق أمها كمية كبيرة من الغازات المنبعثة من الفسفور الأبيض الذي ألقته إسرائيل بكثافة حيث يقطنون في شمال قطاع غزة، كما لم تتمكن الأم من إجراء الفحوصات الروتينية نظرا لخروج المشافي القريبة عن الخدمة ونزوحهم المتكرر.
وفي حين أطلقت ملك صرختها الأولى لتولد على موعد مع الموت، لم يُمنح أطفال كُثر حتى فرصة الصراخ، إذ باغتهم الموت في أرحام أمهاتهم، وخطفهم قبل أن يُولدوا.
ووسط خيمة النزوح في جنوب القطاع، كان الصحفي سيف السويطي يتشبث بخيط أمل وسط كل هذه المأساة، فهناك أنثى تنمو في رحم زوجته بعد طفلين ذكرين، و يقول للجزيرة نت: "كان خبر ولادتها بارقة أمل وسط كل البؤس الذي نعيشه".
ومن ميدان العمل إلى الأسواق ظل سيف يجوب الأسواق بحثا عن علبة فيتامين أو طعام مغذٍّ رغم أثمانه الباهظة، ظنًّا أنه سيحمي زوجته وجنينها من وحش الحرب، لكن لا الطعام ولا الفيتامينات أوقفت الخوف والرعب الذي تسلل إلى قلب زوجته بعد كل قصف، ولا محت آثار النزوح المتكرر وقيامها بمهام تفوق قدرتها، وهي التي كانت تحاول النجاة بنفسها وجنينها في آنٍ واحد.
ومع غياب الرعاية الطبية اللازمة، وازدحام المشافي بالجرحى، كانت مواعيد متابعة الحمل تؤجل لأيام وأسابيع، ومع شح الطعام والاعتماد على المعلبات وغياب المكملات والحديد، بدأ الأمل يتآكل بصمت، فرغم أن المؤشرات الطبية كانت مطمئنة بداية الحمل، فإن سيف وزوجته تلقوا قبل الولادة بيومين فقط، خبر توقف نبض الطفلة في أحشاء أمها.
"أجهضناها بعد واحدة من أصعب رحلات الحمل التي خضناها"، يقول سيف متحسرا، ويتابع "ما زالت ملابس طفلتي مطوية كما هي، في انتظار من لن يأتي، كنت أتمنى سماع صوت حياة جديدة في مكان لا يعج إلا بالموت".
وتكررت عمليات الإجهاض وارتفعت معدلاتها خلال الحرب على غزة بنسبة 300%، كما أن أكثر من 180 طفلا ولدوا بتشوه خلقي، حسب وزارة الصحة الفلسطينية.
وكشف استشاري أمراض النساء والولادة في جمعية أصدقاء المريض في غزة، الدكتور صلاح الكحلوت، صورة قاتمة لما آلت إليه صحة النساء الحوامل وأجنتهن في ظل حرب تهاجم الأطفال حتى في بطون أمهاتهم.
ويقول الكحلوت إن الانفجارات المتكررة، والغازات السامة، والمواد الكيميائية المنبعثة منها، لا تكتفي بتمزيق الأجساد فوق الأرض، بل تخترق بصمت أنسجة الجنين، لتُحدث دمارًا داخليًا في أحشاء الأمهات.
وشكّل ذلك، واقعا مأساويا ارتفعت فيه أعداد الإجهاض التلقائي، والولادات المبكرة، وتكررت فيه حالات انفجار جيب المياه قبل الأوان، والتشوهات الدماغية والقلبية والكلوية والطرفية، والاستسقاء الدماغي، وتضخم مياه الرحم، وحتى غياب الجمجمة كليًا، ووجود أكياس على العمود الفقري.
ويضيف الكحلوت للجزيرة نت "أصبحنا نرى أجنَّة بلا رؤوس، نكتشفها بعد الشهر الرابع، ولا يمكننا الإجهاض بسبب الخطر على حياة الأم، ولأسباب دينية أيضًا، نضطر أن نُكمل الحمل حتى نهايته المؤلمة".
ولم تكن المواد الكيميائية وحدها المتهم في هذه الجريمة الصامتة يشرح الكحلوت، ويقول إن سوء التغذية الحاد، ونقص الفيتامينات الأساسية مثل حمض الفوليك والحديد، وغياب الأغذية المناسبة للحوامل، أضعفت أجساد الأمهات والمواليد على حد سواء، وأسهمت في انهيار عملية النمو الطبيعي داخل الأرحام.
ويتابع: "لقد أضحت الولادة الآمنة حلمًا، فعدد كبير من الأطباء غادروا القطاع، ومن بقي يعمل فوق طاقته، كما أن الفحوصات الضرورية لمتابعة الحمل لم تعد متاحة، وإن وُجدت فلا كهرباء لحفظ المواد اللازمة لإجراء التحاليل".
ولم تجد الجزيرة نت في غزة أي خبير محلي متخصص في علم الأجنة، ولا مختبرات يمكنها فحص المواد السامة أو الإشعاعات التي قد تكون خلف موجة تشوهات المواليد المتزايدة في القطاع المحاصر.
وبعد جهد مضنٍ، تواصلت الشبكة مع المختصة في علم الأجنة الطبيبة آلاء حمد التي تعمل في مشافي قطر ، لتسليط الضوء على الكارثة الصامتة التي لا تظهر في صور المجازر، لكنها تستقر في أحشاء الأمهات.
تقول الطبيبة آلاء: إن استخدام أسلحة محظورة دوليًا، تحوي بداخلها مواد السارين والكلور والفوسفور الأبيض، إلى جانب المعادن الثقيلة و اليورانيوم المُنضب ، قد يُحدث تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على صحة الحوامل، بل ويهدد حياة الأجنَّة داخل الأرحام، كما أنها تُحدث طفرات في المادة الوراثية (دي إن إيه)، مما يزيد من احتمالية حدوث تشوهات خلقية لدى الأجنة أو حتى فقدان الحمل بالكامل.
وتشرح أن ارتفاع معدلات الإجهاض غالبًا ما يكون نتيجة التعرض لمستويات عالية من التوتر أو المواد السامة التي تطلقها هذه الأسلحة.
وحذرت الطبيبة القطرية من أن هذه المواد قد تعرقل تدفق الدم إلى المشيمة، مما يؤخر نمو الجنين داخل الرحم، أو وفاته قبل الولادة، خاصة في حالات التعرض المباشر أو المتكرر لهذه السموم.
واختتمت قائلة: إن بعض الغازات الكيميائية تؤثر في تطور الدماغ والجهاز العصبي للجنين، مما يترك آثارًا عصبية قد تلازم الطفل طيلة حياته.
وبينما يُولد الأطفال في غزة على موعد مع الفقد، فلا شيء أثقل من هاجس أم لا تعرف إن كانت تحمل داخلها طفلا أم ضحية أخرى للحرب.